الدراسة في الخارج.. شهادةٌ ومكاسبُ أخرى
الحاج يحيى: ستُدرِك أنك لست “أبو العريف” والعلاقات ليست لـ”فيس بوك”
الكحلوت: من يكتفي بطلب العلم “يموت” والتوازن نصيحةٌ أساسية
الدراسة في الخارج أمنيةٌ يسعى الكثير من الشباب لتحقيقها، وإذا ما تحققت؛ فإن الشخص يخوض تجربة مليئة بالتفاصيل، ويجد نفسه في “بحرٍ” من الفوائد يقتنص منها قدر استطاعته، ويتبين له أن الشهادة الجامعية ليست المكسب الوحيد من رحلة طلب العلم.. فما هي المكاسب الأخرى؟ وكيف يجنيها الطالب المُغترب؟ وهل للبحث عن العلم أضرارٌ ينبغي الحذر من الوقوع فيها؟
انتقاء الجامعة أولًا
عميد كلية الطب وعلوم الصحة في جامعة النجاح الوطنية في “نابلس”، البروفيسور سليم الحاج يحيى، درس الطب في “حيفا”، ثم أراد أن ينطلق إلى فضاء أوسع في عالم الطب، فتوجه إلى العاصمة البريطانية لندن، فدرسَ وعمِل وأجرى بحوثًا علمية عديدة، وأسهم في تطوير برامج طبية مهمة، كبرنامج قصور القلب، والقلب الاصطناعي، وزراعة الرئة وغيرها، وبعد تجربته في الدراسة والعمل في الخارج بات يشجع الشباب على السفر لطلب العلم.
يرى الحاج يحيى أن تأثيرات الدراسة في الخارج على الطالب تختلف حسب المرحلة التي يدرسها، وحسب نوع الدراسة، كأن تكون دراسة جامعية، أو دورة تدريبية، أو مؤتمر علمي.
عن أولى المراحل الجامعية، البكالوريوس، يقول: “لا أنصح أن يغترب الطالب في تلك المرحلة، فالفائدة الأساسية فيها محدودة، والفروق بين الجامعات العربية الجيدة والجامعات الغربية ليست كبيرة في البكالوريوس، بالإضافة إلى أن السفر يحتاج لتكلفة عالية جدًا، وغالبًا تزيد عن قدرات الطبقة المتوسطة، والأهم من ذلك، أنا أقلق على الشباب في ذلك العمر، فشخصياتهم غير مصقولة بعد، وليست مبنية على أسس واضحة، ولا يتوفر لديهم نضج نفسي يكفي لخوض تجربة الغربة، ولا يتمتعوا بالوعي الحضاري والوطني الذي يمكن أن يتربوا عليه في جامعات عربية”.
ويضيف: “ما يكون مؤثرًا حقًا، هو الدراسة في الخارج في مرحلة ما بعد البكالوريوس، ومن الضروري اختيار جامعة متقدمة علميًا، ليس هذا فحسب، بل يجب أن تجيد تلك الجامعة بناء التفكير العلمي لطلبتها، فهذا أهم من إعطاء المعلومة للطالب”.
ويتابع: “انتقاء الجامعة خطوة مهمة جدًا، إذ يُفضل أن تكون من المائة جامعة الأولى حسب تصنيف الجامعات العالمي (QS)، فبالدراسة فيها يستفيد الطالب علميًا وحضاريًا”.
“ما بعد الدكتوراه”، مرحلة يشجّع الحاج يحيى بشدة على السفر لإجراء البحوث خلالها، إذ يوضح: “من يحصل على درجة الدكتوراه من جامعة غربية، من الأفضل ألّا يعود لبلده فور إنهاء دراسته، وإنما عليه أن يجري بحوث ما بعد الدكتوراه على الأقل لمدة سنة، لأنها تزيد النضج العلمي عند الباحث، وتطور عنده خبرات خاصة، فالعالم اليوم يتجه نحو التخصص الدقيق، والتخصصات كثيرة، والتعمق فيها يعطي الشخص تميزًا وفرصًا أكثر في المستقبل، والسنة التي يقضيها الباحث في إجراء البحوث تعطيه فرصة ليعرف كيفية طلب المنح والدعم المالي الجهات التي تدعم البحث العلمي، وتجعله أكثر إدراكًا للتخصصات الفرعية التي يرغب بها”.
من حسنات البحث العلمي في الخارج، بناء شبكة علاقات علمية، إذ لا يمكن لأي عالم أن يعمل منفردا دون باحثين آخرين، واليوم العالم مترابط جدًا من الناحية العلمية، والعلماء يتعاونون معًا بين بلد وآخر، بحسب الحاج يحيى.
ويبين: “زملاء الدراسة والبحث العلمي ليسوا أصدقاء (فيس بوك)”، شبكة العلاقات تثري الباحث كثيرًا، لأنه لا يريد (اختراع العجل من جديد) كما يقول المثل الإنجليزي، فهناك من اخترعه من قبل، وبالتالي فدور الباحث تحسينه وتطويره وإكمال الجهد الذي بذله آخرون سبقوه”.
ومن الفوائد الأخرى لشبكة العلاقات العلمية، وفقًا لحديث الحاج يحيى، اكتساب خبرات من علماء آخرين، خاصة في المجالات الدقيقة والمتطورة، بالإضافة إلى نشر البحث من خلال أكثر من مركز علمي، ما يزيده قوة وأهمية، وعندما يعود كل عالم في شبكة العلاقات تلك إلى بلده، ويبني فيها مختبرًا أو يؤسس مركزًا، فهذا يعني أن العلاقة معهم مفيدة للمستقبل.
ليس “أبو العريف”
ومن أشكال العلم الذي يتلقاه الدارسون في الخارج، التدريب، وعنه يقول الحاج يحيى: “التدريب يختلف حسب البلد والجهة الراعية له والمرحلة الدراسية، فمثلاً بالنسبة لخريج الطب، إذا درس في بلده، فمن الأفضل ألا يسافر للتدريب فور إنهاء الدراسة، بل بعد أربع سنوات أو يزيد، وذلك ليحقق فائدة الحصول على تخصص دقيق”.
ويضيف: “حتى لو أتمّ الطبيب الدراسات العليا في بلده، فليخض تجربة السفر، لأنه سوف يرى طرق عمل متطورة، وأسسًا عملية صحيحة، ويتعلم أسس سلامة المريض، فالطب ليس مجرد تشخيص أو إجراء جراحة، بل هو سلامة المريض، وفي تلك المرحلة يتعلم الطبيب الإنسانية في مواضع كثيرة، والتي تكون أهم من العلم أحيانًا، وكذلك يتدرب على العمل في فريق”.
وعن النقطة الأخيرة، يتابع: “العمل ضمن فريق يجعل الطبيب يدرك أنه ليس (أبو العريف)، وأن البروفيسور ليس صاحب الكلمة الوحيدة، وإنما هو يعرض وجهة نظره، ضمن وجهات النظر المختلفة”.
ويستذكر الحاج يحيى عبارة قالها له أحد أساتذته قبل 23 عامًا، ويكررها هو لطلبته اليوم، تلك العبارة كانت:
“عندما تنهي دراسة الطب ستظن أنك (أبو العريف)، وعندما تتخصص في مجال ما، سترى نفسك ملكًا لا يجوز لأحد الحديث معه، أما بعد أن تصبح بروفيسور وصاحب تجربة ستعرف كم أنك لا تعرف”.
ويفسّر جزئية “ستعرف كم أنك لا تعرف” بالقول: “عندما يصل الطبيب لتلك المرحلة من العلم والخبرة، يعرف حدوده في الطب، ومتى يجب أن يتدخل، ومتى يتعين عليه أن يمتنع، ومتى قد يؤذي المريض بدلًا من إفادته، وهذه النقطة يصعب تعلمها هنا، فهي ليست ضمن الثقافة الشرقية”.
ويصف التدريب بأنه “جوٌّ كامل” يعيشه الفرد، وليس مجرد مهمة تنتهي في وقت محدد، لذا يرى أن المتدرب يجب أن يبقى في الخارج لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات، مشيرًا إلى أن الطالب يجب أن يختار بعناية ذلك “الجو” الذي سيعيش فيه، ليكون داعمًا له على الصعيدين النفسي والتنافسي، فالتهيئة النفسية ضرورية لأن الباحث يجب أن يملك الحماس لإجراء البحوث، لأنها تكون على حساب وقته وحياته الاجتماعية، أما الأجواء التنافسية فلا بد منها ليتشجع الباحث ولا يتملكه الإحباط.
ويوضح: “هذا يعني أن الأجواء التي يعيشها الطالب هي جزء من الفائدة التي يحققها إن درس في الخارج، وبالطبع هذه الأجواء ليست متاحة في الدول العربية كما هي في الدول الغربية”.
دون المساس بالثوابت
بعيدًا عن الجانب العلمي، كيف يعود الطالب من الخارج بحال أفضل على صعيد الشخصية والوعي والفكر؟
يجيب الحاج يحيى: “هذا يعتمد بدرجة كبيرة على الخلفية الثقافية للشخص، فقد يعيش عشرات السنوات في أكثر بلدان العالم تقدمًا، ثم يرجع إلى بلده وقد اكتسب العلم والخبرة، لكنه ما يزال يحمل ذات العقلية إداريًا وحضاريًا وتربويًا”.
ويؤكد: “ليس المقصود تغيير العادات والتقاليد والثوابت، وإنما حديثي عن العقلية الحضارية، بمعنى التحلي بقيمٍ مهمة، كالتواضع، ففي الشرق قد يستعلي الناجحون على غيرهم، بينما الدراسة في الغرب تتيح للطالب تعلم التواضع، والنظر للإنسان كإنسان، واحترامه بغض النظر عن شهاداته ومركزه”، مشددًا على أن “لا تعارض بين التطور والحفاظ على الثوابت”.
يقول: “عدت من الخارج أكثر تمسكًا بالثوابت، بسبب النشأة التي حظيت بها، فقد كان والدي يأخذني وإخوتي بين حين وآخر للفلاحة في أرضنا، ليعلمنا الانتماء للوطن”.
وينصح الحاج يحيى الدارسين في الخارج بالاختلاط بأهل البلد التي يدرسون فيها، لإجادة اللغة باللهجة الصحيحة، لما لها من أهمية في المستقبل، وأن يسعى لتغيير ذاته وتحسين شخصيته وتطوير فكره، مع تعلم الاستماع للرأي الآخر، والإصغاء، وعدم الاستعجال في ردود الفعل.
ويشدد على أهمية أن يفعل المسافر ذلك دون أن يبيع مبادئه، فيأخذ الأشياء الجيدة من المجتمع الذي يعيش فيه، دون التطبع بسلبياته.
مختبراتٌ وجولات
البروفيسورة أمل الكحلوت، عميد كلية العلوم بجامعة الأزهر في مدينة غزة، وحائزة على جائزة “إيسيسكو” في العلوم والتكنولوجيا لعام 2016، درست البكالوريوس في جمهورية مصر العربية، وأتبعته بالماجستير من بريطانيا، وفي ألمانيا حصلت على درجة الدكتوراه وأجرت ما بعدها من بحوث أهلتها للحصول على درجة الأستاذية، وكان لكل مرحلة خصائصها وفوائدها، وفي سنوات غربتها قضت وقتها في المختبرات وبالتنقل بين المدن لتنهل أكبر قدر ممكن من العلم والخبرة والثقافة.
تقول: “من واقع تجربتي الشخصية، أؤمن أن الدراسة في الخارج ليست مجرد شهادة، وأن الفوائد التي يجنيها الطالب المغترب تمتد لجميع جوانب الحياة، الشخصية والمهنية والعملية والثقافية وغيرها”.
وتضيف: “لا مقارنة بين جامعاتنا المحلية والجامعات في الخارج، فأنا أستاذة جامعية، وأعتقد أن المدرسين هنا ذوي كفاءة وخبرة عاليتين جدًا، ومنهم من تخرج من جامعات أوروبية، ورغم ذلك فإن المقارنة السريعة بين التخصص في الداخل والخارج تُظهر بوضوح أنه أكثر فعالية وإيجابية في الغرب”.
وتتابع: “الاختلاف لا يرجع لفوارق في مستوى الذكاء، وإنما لما هو متاح في تلك الجامعات، فهناك علماء حقيقيون، وأجهزة ومختبرات متقدمة، وحين يتدرب الطالب على أيدي أولئك العلماء، وداخل تلك المختبرات، وتقدم لهم الدولة وبعض المؤسسات كل احتياجاتهم، فهذا يساعد على إثراء التخصص”.
وتشير إلى أن الانفتاح في الدول الأوربية وعدم وجود عوائق في التنقل بينها يوفر للطلبة إمكانية التواصل مع علماء وباحثين في مختلف الدول، والمشاركة في المؤتمرات وورش العمل في أي زمان ومكان، وهذا يتيح فرصًا للنقاش والتعارف والتداخل وتبادل الأفكار.
“للسفر سبع فوائد”، تستشهد الكحلوت بهذه المقولة لتتحدث عمّا يستفيده الطالب المسافر في جوانب مختلفة من حياته، عدا عن العملية التعليمية، تقول: “في الغرب يعيش الطالب حياة مختلفة تمامًا عمّا اعتاد عليه في بلده، ويقيم في السكن مع طلبة من جنسيات متعددة، ويختلط بمجتمعات ذات ثقافات مختلفة، وهناك يحصل على الفرص التي يستحقها، ولا تضيع عليه فرصة هي من حقّه”.
الاعتماد على الذات من أهم ما يضطر الطالب المغترب لتعلمه، وهو ميزة لها آثارها الإيجابية على الشخصية، بحسب الكحلوت، التي توضح: “من خلال عملي في الجامعة، أرى طلبة ما يزالوا يعتمدوا على آبائهم وأمهاتهم في تسيير شؤونهم الجامعية، كدفع الرسوم، أو التواصل مع الأساتذة الجامعيين، أو مراجعة درجات الاختبارات، وهذا الأمر غير ممكن لمن يدرس بعيدًا عن أهله”.
وبالتوقف في بعض محطات دراستها في الخارج، نتعرف على بعض التغيرات التي يمكن أن تطرأ على الطالب في غربته، تقول: “بعد الثانوية، أتممت دراستي كلها في الخارج، بدأت بالبكالوريوس في مصر، ولكني لم أتعلم الكثير آنذاك لأنني كنت في مجتمع عربي، لذا يمكنني القول إن الماجستير كان وكأنه التجربة الأولى، كان تجربة ثرية، تعلمت فيها الكثير”.
في بداية وجودها في بريطانيا، لو قال لها أحدهم “كيف حالك”، ما كانت تجرؤ على الرد، لكنها في فترة وجيزة أجادت اللغة الإنجليزية تمامًا، معتمدة على الاختلاط بالبريطانيين، وانتهاز كل الفرص للتحدث معهم.
أنهت الكحلوت دراستها في بريطانيا دون أن تطلب منها الجامعة شهاداتها السابقة الأصلية، ومن هنا تعلمت أن تتعامل مع الآخرين على أنهم صادقون، حتى يثبت عكس ذلك.
إجراء المعاملات طوال فترة إقامتها في الخارج كان يتم بسلاسة كاملة، وفي مواعيد محددة، وباحترام كامل للإنسان، فرأت في ذلك احترامًا للقانون والنظام والوقت والإنسان مهما كانت جنسيته.
في أثناء دراسة الدكتوراه في ألمانيا، تعلمت الكحلوت النظام، والدقة في المواعيد، حتى أن صديقتها كانت تحذرها قائلة: “لا تتعلمي الانضباط أكثر من اللازم، لأنك إن عدتِ على هذه الحال إلى بلدك، فستكونين منبوذة في المجتمع، وأنتِ لن تتقبلي الآخرين”.
كانت تقضي جلّ وقتها بين الكتب، أو في أروقة المختبرات في جامعتها، لكن هذا لا يعني أنها كانت حبيسة “الفيزياء” خلال سنوات دراستها في الخارج، بل كانت تستثمر إجازة نهاية الأسبوع في التنقل بين مدن البلد الذي تقيم فيه للتعرف على ثقافته وحضاراته وتراثه، فهي لم تكن تريد العلم فقط، على حد قولها.
نقطة التقبل
من وجهة نظر الكحلوت، تختلف الفوائد التي يحققها الطالب من سفره حسب المرحلة الدراسية، فطالب البكالوريوس لا يزال صغيرًا في السن وقد خرج لتوّه من مرحلة المراهقة، لذا فهو يعاني كثيرًا لإثبات وجوده، وقد يحتاج لسنة كاملة لتعلم اللغة قبل البدء في الدراسة، وخلال هذه السنة يكون عرضة للانصهار في الثقافة الجديدة التي يعيش بين أهلها، لكنه يجني مميزات عديدة، منها زيادة فرصه في الحصول على الجنسية، وتحقيق نجاحات أسهل وأسرع.
وتبين: “طالب الدراسات العليا غالبًا يكون مستقرًا، ولديه أسرة، وبالتالي يكون اختلاطه مع المجتمع محدودًا، ويكتفي بالتواصل مع الجهات التي تلزمه مثل حضانات الأطفال والمدارس والمجتمع العلمي والجامعات، ويهتم بإقامات علاقات مع أسرٍ عربية لأجل أبنائه”.
أن يكتفي طالب مُسافر بالشهادات الجامعية، فهذا يعني “موتًا” كما ترى الكحلوت، ومع ذلك فهي تشدد على أهمية تحقيق التوازن بين الحياة التي نشأ الفرد فيها، وبين حياته الجديدة، حتى لا يدخل في مرحلة التأثر السلبي.
تقول: “يجب ألا يندمج الطالب كثيرًا في ثقافة الآخر، إنما المطلوب هو الوصول إلى نقطة يتقبل فيها الآخر، ويتقبله الآخر كما هو، مع المحافظة على الثوابت والدين، والحرص على عدم التصادم مع أهل البلد التي يقيم فيها”.
وتضيف: “العلاقة الجيدة مع أهل البلد، تجعل الطالب سببًا في رسم صورة جميلة عن دينه وبلده، خاصة نحن الفلسطينيين، إذ لدينا قضية يجب أن نعرف العالم بحقيقتها، ولأن الغرب يعيش في أجواء تتبنى رواية الاحتلال الإسرائيلي، فإن شعبه لم يسمعنا بالطرق التقليدية، لذا علينا أن نبدأ بتكوين قاعدة من الثقة، تقوم على الخلق الحسن والصدق والاجتهاد، وبذلك نثبت وجودنا في المكان، وحينها قد يسمع الطرف الآخر أفكارنا، وتلك فائدة مهمة، وإن لم تكن مكسبًا شخصيًا”.