تحدي القراءة العربي..متى تصبح القراءة ثقافة؟(1)
تعددت المشاريع التي تطلق بين الحين والآخر للاهتمام بالقراءة في الوطن العربي بين مبادرات رسمية لدول وأخرى مدنية حرة من كل قيد رسمي أو سياسي، ولا ريب في جميع تلك المبادرات، بل إنها لازمة لاستعادة العلاقة بالمعرفة والكتاب الذي يعد أساسًا في تشكيل الوعي بالذات والآخر، ولبناء النهضة المستقبلية على أسس سليمة بدل التلذذ بمساوئ التخلف والانجراف في أتونه مع انتشار الجهل والتطرف وسطوة الاستبداد الذي يعادي الوعي والثقافة، وكان لهذه السنة من أكبر المشاريع التي تعنى بالقراءة في الوطن العربي “تحدي القراءة العربي” الذي أطلقته دولة الإمارات ويهم كل الشباب العربي، وخصت للمشاركين فيه من الأطفال والمدارس جوائز كبرى وحددت صيغًا وشروطًا للمشاركة.
ما هو التحدي وما الغاية منه؟ وكيف نجعل من القراءة ثقافة وما حدود تدخل التعليم في ذلك؟
1) تحدي القراءة العربي…الفكرة والأهداف
مشروع تحدي القراءة العربي أطلقه نائب رئيس دول الإمارات محمد بن راشد عبر “تشجيع القراءة لدى الطلاب في العالم العربي عبر التزام أكثر من مليون طالب بالمشاركة بقراءة خمسين مليون كتاب خلال كل عام دراسي”.
ينطلق من شهر سبتمبر إلى مارس من كل سنة “يتدرج خلالها الطلاب المشاركون عبر خمس مراحل تتضمن كل مرحلة قراءة عشرة كتب وتلخيصها في جوازات التحدي.
بعد الانتهاء من القراءة والتلخيص، تبدأ مراحل التصفيات وفق معايير معتمدة، وتتم على مستوى المدارس والمناطق التعليمية ثم مستوى الأقطار العربية وصولاً للتصفيات النهائية والتي تُعقد في دبي سنويًا في شهر مايو/أيّار”، وتتم المنافسة للقراءة بالعربية ابتداءً من الصف الأول إلى الصف “الثاني عشر من المدارس المشاركة عبر العالم العربي”.
وبحسب التعريف الموضوع في الموقع الخاص بالتحدي، فإنه يهدف إلى
“تنمية حب القراءة لدى جيل الأطفال والشباب في العالم العربي، وغرسها كعادة متأصلة في حياتهم تعزز ملكة الفضول وشغف المعرفة لديهم، وتوسع مداركهم. كما أن القراءة تؤدي إلى تنمية مهارات الطلاب في التفكير التحليلي والنقد والتعبير، وتعزيز قيم التسامح والانفتاح الفكري والثقافي لديهم من خلال تعريفهم بأفكار الكتاب والمفكرين والفلاسفة بخلفياتهم المتنوعة وتجاربهم الواسعة في نطاقات ثقافية متعددة…كما يهدف التحدي إلى فتح الباب أمام الميدان التعليمي والآباء والأمهات في العالم العربي للمساهمة في تحقيق هذه الغاية وتأدية دور محوري في تغيير واقع القراءة وغرس حب القراءة في الأجيال الجديدة”.
ووضع لذلك التحدي لجنة خاصة للسهر على التحدي، وخطة لمراحله المتوالية والتصفيات المتوالية على مستوى الدول، كما خص الفائزين من الشباب والمدارس جوائز محصورة بين 1000 آلاف دولار و 150000 ألف دولار للفرد الفائز أو المدرسة والمنطقة إلى جانب تكاليف الدراسة وتشجيعات أخرى.
إن أي مبادرة تستهدف الوعي والثقافة بغاية تنميتها والرقي بها تستحق التشجيع والتنويه، لكن مثل هذه المبادرات ينبغي أن تكون جزءًا من مشروع متكامل يستهدف الوعي الثقافي برمته، كما أنه ينبغي يكون مندمجًا مع باقي القطاعات في كل ربوع الوطن العربي بحيث تكون التنمية الثقافية والفكرية قضية مجتمعية وقلق أمة، فلا يكون عامل التشجيع المالي وحده الكفيل بالانخراط فيه أو تحبيب الناس للالتحاق به.
فالقراءة والكتاب ينبغي أن يكون ثقافة وسلوكًا اجتماعيًا مواكبًا لحياة الناس كما عاداتهم من التدفئة أثناء البرد والنوم لحظات التعب والعياء وإشباع احتياجات البطن مع الجوع بانتظام، فكذلك القراءة والثقافة، فهي غذاء العقل والروح الذي لا غنى للمرء والمجتمع عنه، وضرورة من الضرورات تعرف الأمم من خلالها وتتحقق الذوات بالمعرفة والكتاب وإن بدون تشجيع من هذا النمط.
فالمجتمعات العربية جميعها بحاجة للانخراط الذاتي في مستلزمات القراءة الواعية المتبصرة لتحقيق المنشود واستعادة المهدور من المجد الضائع لما كانت الأمة ملتحمة بكتابها، فلم تكن الثقافة هم سياسات الدول والسلاطين، وإنما كان المجتمع يرعى التعليم والثقافة ويسعى لتنمية المعارف والفكر بدعم الوقف، فكانت كل الحواضر الإسلامية التي انقشع منها شعاع الحضارة تدبر شؤون تعليمها وترعى صبيانها وأطفالها تعليمًا وتربية وتثقيفًا بالوقف والإرادة الحرة للناس.
حيث تكون الغاية من العلم والمعرفة ذي أبعاد رسالية حضارية غير مهجوسة بإرادة السلطان، لأن هذا الأخير انصرف إلى شؤون الحكم وبسط نفوذه فيما اهتم العلماء بالمجتمع واحتضنهم المجتمع الأهلي، ولم تأخذ المعرفة حظها في الاهتمام من الدول والملوك إلى مؤخرًا مع الدولة القطرية الحديثة، ولما أصبح التعليم والثقافة شأنًا سياسيًا للدول تم إخضاعه لإرادة السلطان ورغبة الحاكم، فأصبحت المدرسة آلية من آليات الضبط الاجتماعي وكذلك المناهج التعليمية، ولا أدل على ذلك من واقعنا العربي في قضايا الثقافة والتعليم ومكانة المدرسة وموقعها في توطيد الصلة بالقراءة وتمتين العلاقة مع الكتاب.
لماذا أخفقت المدرسة في الوطن العربي في توطيد الصلة بالكتاب والقراءة؟ وكيف يمكن أن نعيد للقراءة حيويتها في صياغة وجدان الأفراد والمجتمعات وتشكيل رؤاهم؟ وكيف يمكن للمؤسسات التعليمية أن تقوم بذلك الدور…؟
ذلك ما نحاول الوقوف عليه في المقالة المقبلة.