“هل تصنع الرِّواية مُثقفًا؟”
“هل تصنع الرِّواية مُثقفًا؟” رُبما طرحتَ على نفسِكَ هذا السؤال، أو فكرت فيه بصيغة مُختلفة من قبل، فالحديث عن أهمية الرواية أو عدم أهميتها يشغل الكثير.. فئة تراها ذات فائدة، وأخرى تراها عديمة الفائدة، وبعض الناس -أحسبهم قليلين- يصفوها بأنها مفسدة للعقول ولهو يجب اجتنابه!
ومن هنا يُولَد تطرف الحكم على الرِّواية بوجه عام.. إنَّ الرّوايةَ فنٌ من فنونِ الأدبِ، ومثلها مثل غيرها، تتعدد مواضعها، وأفكارها، وهدف الكاتبِ منها.. والحُكم عليها كنوع من الفنِ بعدم الفائدة ضربٌ من العبثِ، وأصحاب هذا المبدأ هم من يحرِّمون جميع أنواع الفنون على اختلافها، مُتعللين بأنّها سبب ضياع الوقت إضافة إلى ما تزرعه من شرٍّ في العقولِ!
ومن هنا فإن من الإنصاف الحُكم على العمل الرّوائي منفردًا دون تعميم صفة السوء، بل إن القارئ للأدب العربى والأدب العالمي على السواء يستطيع أن يُعمم للرواية الحُسن لا السوء.
معيار المُفاضلة:
يقول كافكا: “ينبغي أن يكون أي كتاب مثل فأس تُذيب البحرَ المتجمدَ فى داخلنا”.
ويقول أيضًا: “إذا لم يوقظنا الكتاب الذي نقرأه بضربةٍ على الرأس.. فما فائدة قراءته؟!”
فالقراءة بوجه عام هي أحد الوسائل المتوفرة للإنسان لرؤية العالم بطرق مُختلفة، لتحطيم الأصنام التى عبدها حسب البيئة التي نشأ فيها، ووضع آرائه وأفكاره جميعها موضع اختبار، فيؤمن بما يستحق الإيمان، ويمحو ما لم يتفق معه بعد الاختبار، ومحاولة بناء فكر حر، قائم على القناعات الشّخصية، مع الإيمان بحق الآخر في الحرية الفكرية، والرّواية على وجه الخصوص لها دروها المشهود فى هذه العملية.
إن النّسيج الروائي يجعلك ترى أشخاصًا بفكر، وعاطفة، ومعتقدات مختلفة، يخلق بداخلك إنسانًا آخر يتعاطف مع أفراد نبذهم من قبل، ينبذ أفراد تعاطف معهم من قبل، يجبرك على سماع الآخرين مهما اختلفت الزاوية التى يُشاهدون بها الصورة، بل إنه يُريك الصورة كاملة من جميع الزوايا، إضافة إلى النوايا الخفية للأفعال الظاهرة، فكيف بعد كُل هذا تخرج من العمل كما دخلته؟! كل هذا يتوقف على تفاعُلك أنتَ مع العمل، قدرتك على تأمل الدوافع النفسية للإنسان بوجه عام، المفاضلة بين الصراعات القائمة بين الخير والشّر في كل الأعمال الروائية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
إن الرّواية كانت وما زالت إحدى وسائل نشر الوعي فى المجتمع، وليست كأي وسيلة أخرى لأنها أكثر انتشارًا وأخف على روح القارئ من الكتاب، وهناك الكثير والكثير من الروايات العربية والعالمية التي استطاعت معالجة أفكار فلسفية، وسياسية، واجتماعية، ونفسية، بطرق إن دلت على شيء فهي تدل على عبقرية الكاتب وقدرة الرواية ذاتها على الولوج فى كل ضروب الحياة.
وروايات تاريخية استطاعت توثيق مراحل كاملة من حياة البشر في صورة قريبة من جميع العقول والمستويات الفكرية.
نظرة لبعض الروايات العالمية والعربية:
– رواية 1984: رواية تكاد تكون دراسة للحكومات المُستبدة، وكيفية فرض السيطرة على الشعوب، تفكيرًا، وإحساسًا، وإيمانًا، حتى اللغة نفسها، لقد استطاع جورج أورويل أن يخرج بعمل روائى سياسي صادق للحد الذي جعل الكثير من الحكومات تقوم بمنع نشرها.
– رواية الإغواء الأخير للمسيح: إن رائعة كوزنتازكيس لا تعد سيرة للمسيح كما يرى، بل هي مأساة بشرية كاملة، حال الإنسان في كل مكان وزمان وصراعه مع الرّب والشّيطان، وإيمان الفقراء، وتخلي الأنصار، وغيره من المعانى الإنسانيّة التي التحمت في عمل واحد لإخراج درة من درر الأدب اليوناني.
– رواية ثلاثية غرناطة: في صورة روائية اجتماعية بسيطة نسجت رضوى عاشور حال غرناطة، آخر مُدن الأندلس، والتي بسقوطها سقط حكم العرب في شبه الجزيرة الإيبرية، وفي روايتها الطنطورية أكملت نسجها للمأساة العربية بوضع القضية الفلسطينية.
إن الرواية لا تحمل عبء سوء الاختيار من قبل القارئ، ليست المسئولة عن كسل القارئ ولجوئه إلى ما هو شائع على وجهة المكتبات تحت عنوان “الأكثر مبيعًا”، هي بريئة من تردي الذوق العام بين القراء، القارئ هو المسئول عن كُلِّ هذا، عن اختياره، وطريقة تفاعله مع العمل، وتقبله أو عدم تقبله للفكرة المعروضة؛ لكي يخرج منه بأقصى فائدة ممكنة.
وبعد كل هذا إن كانتْ الرواية لا تهبُ القارئ سوى المتعة -وهذا لا يحدث، لأن متعة القارئ الصائب تتعلق بمدى جودة فكرة ولغة الرواية- فإنه هدف يستحق أن يُحترَم ناشدوه، لأن سعادة المرء هي الغاية له من وراء كل ما يفعل، والحق أن العالم الذي ينسجه الروائي بحنكة وقدرة دون تكلُّف أو مبالغة، يستطيع أن يمنح الإنسان صورة كاملة لذاته والعالم من حوله، من شأنها مع مرور الوقت واختلاف العوالم التي يحياها مع أبطال الروايات أن تجعله أقدر على مفاضلة الأمور، أكثر تقبل للتقلبات الحياتيّة، والأهم من هذا كُله أن القارئ يكون أكثر واقعيّة على الرغم من أن مَن حوله يرونه حالمًا، يجهل الواقع، يعيش فى الخيال.
إن المأساة البشرية الواقعيّة تجعل المرء يتفاجأ أكثر من الخيال، بل إن معظم ما يظنه الأغلب خيال المؤلف لا يعدو على أن يكون صفحة من تاريخ المغمورين الذين يعيشون على هامش الحياة، والعالم غير عابئ بهم.