فلماذا نضيق بلا سبب؟
“أشعر بِضِيقٍ لا أَجِدُ له مبررًا”
“لم تَعُدْ هواياتي تشعرني بالإنجاز والسعادة كما في السابق”
“عُدْتُ لِتَوِّي من سهرة مع الأصدقاء والأحباب، وما زال الهمُّ يُلازِمُني”
كثيرون هم من يشتكون من الحزن والاكتئاب من حولنا؛ فلا تلبث أن تذكر كلمة ضيق أو عسر إلا وفَسَّر أحدُهم أن السبب وراء ذلك هو انعدام الراحة في زمن تتسارع فيه عقارب الساعة؛ لتعلن فوات الفرص وانقضاء الأعمار. ثم يَتَّهِمُ آخرُ ضغوطَ الحياة ومشاكلها بأنها العاملُ الرئيسُ وراء ضياع النفس وتشتتها، ويَدَّعي ثالثٌ أن الفسادَ والظلم الذي يعتري جميع الأوضاع المحيطة هو ما يعكر صَفْو المعيشة، ويزيد من همومها.
لا يمكن لي ولا لغيري أن نقلل من شأن هذه العوامل أو نَغُضَّ الطَّرْفَ عنها؛ فنحن جميعًا مبتلَوْنَ بها، لكن ماذا عن حقيقةِ أنَّ جميع هذه الظروف ليست بجديدة على البشرية، وأن الضغوط والمشكلات وأحداث الغَصْب والنَّهْب والسَّلْب والازدراء والتجارِب المريرة والأوقات العصيبة كلَّها لم تترك شخصًا إلا وشاركته حياته؛ فإما أن يعاملها بما يليق بمقامها، وإلا غطسته في بحور من الاكتئاب والضياع حتى تضيق نفسه بالحياة، وينقطع عنها كلَّ انقطاع.
ولكن لنكن واقعيِّين، أحيانًا يبدو كلُّ شيء على ما يرام؛ فلديك وظيفةٌ جيدة، ووضعك المادي ميسور، وعلاقاتك لا تشكل عقبة في حياتك، لكنك تشعر بضيقٍ ما.. لا تدرك جذوره الحقيقية بَعْدُ، ربما هو بُعْدٌ عن الله، أو مَلَل من رتابة مألوفة لا تستطيع التخلص منها. وربما هو خليط من هذا وذاك وذاكم، وربما هو على الأرجح إهمال نفسك لنفسك.
في هذا المقال أعرض لكم نصيحتين استَقَيْتُهما من دورةٍ للطبيب النفسي عبد الرحمن ذاكر الهاشمي بعنوان “من أنا؟ ولمَ أنا؟”؛ حيث أري -بكل صدق- أنهما يُجيبان عن أحد أهم الأسئلة التي تدور في أذهاننا، والتي ذكرتُها قبلا: لماذا أشعر بضِيقٍ دائمًا دونما سبب يستحق؟
تتلخص الإجابة والحل في نقطتين:
تَعَلَّم شيئًا جديدًا كلَّ يوم:
أو بالأحرى خَصِّصْ وقتًا ولو ربع ساعة كلَّ يوم لتختلي فيها بنفسك وتمارس نشاطًا يُنمِّي من تفكيرك، ويوسع أُفُقَك. أعلم أنك ربما سمعتَ بهذه النصيحة مرارًا وتَكرارًا من قبل، لكني لم أكن لأذكرَها لولا أهميتها.
جميعنا يقضي على الأقل 8 ساعات يوميًّا في العمل أو الجامعة بين الناس، يُلبي احتياجات هذا، ويستمع إلى ذاك، ويناقش قضية أحد الناس، ويهنئ أو يعزي آخر. وما نلبث أن نعود لبيوتنا حتى تواجهنا قضايا وحاجيات من نوع آخر، وحتى في طريقنا من بيوتنا وإليها كلَّ يوم، فلا بُدَّ أن تتسرَّب إلى آذاننا أخبارٌ من هذا، واتهامات من ذاك، وسيئات غير معدودة، ومثيرات للتفكر وإعادة النظر في توجُّهات الحياة، وتشكُّكات في أنفسنا حتى، وغيرها من الأفكار والأحداث. وكل ما نواجهه ونستمع إليه حتى وإن لم نتوقف عنده فهو يؤثر على نحو ما في عقولنا دون وعيٍّ منا، وبالتالي تجد نفسك في ضيق دون معرفة السبب، والحقيقة أن فلانًا الذي حدثك عن مشكلته أجبرك على معايشتها دونما إدراكٍ منك، وهذا الذي صافحك بوجه كئيب ربما ضايقك، ومضى، وغيرهم الكثير.
وليس من الواقعي أن أقول لك أَبْعِدْ عنك المثبطين أو خاصمهم أو امش بسدادات أذن بين الناس؛ لأنهم سيعترضون طريقك على كل حال.
إنما الحل الذي بين يديك هو أن تستقطع أنت لنفسك وقتًا تتوقف فيه عن العطاء وبذل الروح والجسد للآخرين، وتتفرغ لقلبك ولعقلك الذي أهلكته الإشاعات والأخبار غير الموثوق في صحتها. استقطع وقتًا وخذ كتابًا واقرأه أو شاهد مقطعًا تعليميًّا أو تثقيفيًّا، ثم شاركه مع من تحب، لا مَن أنت مجبَرٌ على مشاركته ومناقشته كل يوم.
والميزة وراء هذه الخَلوة أنها خلوة تحفيزية؛ فمعلوم أنَّ تعلم أي شيء جديد يزيد من سعادتك وتقديرك لذاتك؛ فعندما تخصص وقتًا لإعادة شحن بطارياتك بنشاط مفيد؛ ستشعر بأنك وفَّيت نفسك حقها، وتستعد بعدَئِذٍ لتلبية متطلبات الناس والحياة من حولك.
أتذكر أن الدكتور عبد الرحمن كان يقول إنه بعد صلاة الظهر يجلس في مسجد عيادته لبعض الوقت، فيسحب كتابًا للبُخاري، ويحفظ حديثًا جديدًا منه، ويفهم معانيه، ثم يتصل بزوجته ليشاركها في ذلك. بهذا الصنيع البسيط، تتجدد طاقته ويقول لنفسه: “حسنًا، الآن وفيتك حقك” ويعود ليمارس مَهَامِّه المطلوبة من جديد بنفسية أفضل وطاقة مشتعلة.
حدد نشاطًا مغذيًّا لعقلك وروحك الآن، وخصص له بضع دقائق في اليوم، ثم ترقب التغير الباهر في نفسيتك وقدرتك على تقبل الأمور والأوضاع.
لا تنم إلا وقد أغلقت ملفات جميع الناس لديك:
تأمل هذا الموقف العظيم عندما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابة ثلاث مرات: “يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة” فاشرَأَبَّتِ الأعناق إلى رجل قد خرج، توضأ، تنطف لحيته ماء، قد تعقل نعليه بيده الشمال، تتبعته الأنظار، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: أنا صاحبه، آتي بخبره؛ فتبعه، واحتال بحيلة؛ ليبيت عنده، فلم ير عنده كثيرَ قيام، أو صيام، لكنه كان إذا انتبه من الليل ذكر الله.
بات عنده ثلاثة أيام بليالها، ثم سأله عن عمله، قال: ما هو إلا ما قد رأيت، فأخبره أنه سمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه شهادة عظيمة، فولى عبد الله فدعاه، فقال: ما هو إلا ما قد رأيت، غير أني لا أبيت وفي قلبي غلٌّ على أحد من المسلمين، ولا أحسد أحدًا من المسلمين على خير أعطاه الله إياه، قال: هذه التي بلغتَ بك ما بلغت، وهي التي لا تطاق.
هذه النقطة بحد ذاتها أسلوب حياة؛ أن تعود نفسك ألا تنام قبل أن تصفر عدادك، وتغلق كل ملفات الضيق والمشاكل والغل والحقد تجاه الآخرين. كثيرًا ما نخلد إلى النوم مُحمَّلين بمشاكل مضى عليها العام والعامين، تراكمت حتى نسينا أصلها، وما بقي منها إلا آثار الألم والاكتئاب.
فهذا الذي ضايقك بكلمة فكتمتها بداخلك، وتقبلتها لأسابيع، وأنت في الواقع لا تستحقها، كان من الممكن أن تواجهه لحظتها، وتستفسر منه عن السبب وراءها وقتها، وتعبر عن مشاعر الضيق التي انتابتك بعد سماعها ومن ثم تقدم الاعتذار حال الخطأ أو تبرر موقفك إن احتجت لذلك. ومن هنا يغلق ملف قضية في ساعتها، ولا تعاود التفكير بشأنه مجددًا؛ فلا أحد يستحق أن تأخذه معك إلى بيتك لتفكر، وتناقش، وتحلل مقصده من وراء ما قاله أو ارتكبه في حقك. لا تُمَلِّك أحدًا مفاتيح مشاعرك؛ لأنه لن يستخدمها لصالحك على الأغلب.
قلبك أمانة فلا تجعله عُرْضَة لكل من هَبَّ ودَبَّ من البشر، يلطخونه بسوء فهمهم أو سوء أدبهم. صارح من يضايقك أو يزعجك لحظتها؛ حتى إذا أخلدت إلى لنوم، كنت أنت ونفسك فحسْب؛ لا تشعر بحزن تجاه صنيع أحد أو حقد تجاه آخر. علاج أي قضية متعلقة بالنفس يبدأ بالتوعية المصحوبة بالعمل مباشرة.
قد يستغرق منك تطبيق هاتين النصيحتين بعض الوقت والجهد، لكن الأكيد أن نتائجهما مضمونة؛ فلا تهمل في حق نفسك في التجدد، ولا تهدر طاقتك ووقتك لأجل تبرير ما يفعله الآخرون. وتذكر أن كل ما عليك هو تجاوز العقبات التي تعترض طريقك في الحياة؛ لتمضي قدمًا بأقل الخسائر، ليس أن تقف عندها، أو أن تحملها على عاتقك على مَرِّ الزمان