الكتابة، هل هي موهبة أو مهارة مكتسبة؟!
الكتابة من بين الكثير من المهارات الحياتية الأخرى، تستلزم الصقل والتدريب. ولكنها من جهة أخرى تعتبر موهبة لا ينالها كل الناس. بل وأحيانًا كأي موهبة قد لا يدرك الإنسان أنه يمتلكها إلا مصادفة وقد لا يعرف أبدًا. ومقالنا هنا يحاول الإجابة على هذه التساؤلات من خلال معرفة ما إذا كان الكتابة موهبة أو مهارة مكتسبة؟!
فيلم “الآنسة بوتر” Miss Potter الذي أصدرته “البي بي سي” BBC عام 2006، يحكي القصة الحقيقة لكاتبة قصص الأطفال الإنجليزية “بياتريكس بوتر” Beatrix Potter. وكيف أنها كانت مولعة برواية القصص الخيالية للأطفال لأخيها والعاملين في المنزل منذ صغرها. ورغم أن والدتها لم تدعمها مطلقًا وكانت دائمًا تسخر منها، إلا أنّ الآنسة “بوتر” لم تهتم لذلك وحرصت على تطوير مهارتها، بل ونشر قصصها بنفسها حين كبرت. الآنسة “بوتر” إذن هي قصة فتاة أُوتِيت موهبة الكتابة والرسم منذ الصغر، وأدركتها هي وصقلتها مع مرور الأيام.
ثم تأتي قصة فيلم “هذا الجميل الرائع” This Beautiful Fantastic عام2016 لتغير هذه المقاييس، فالبطلة منذ صغرها تحلم بأن تكون كاتبة وتؤلف روايتها، ولكن مشكلتها في أنها لم تملك الموهبة، أو بالأحرى لم تدرك أنها كانت تمتلكها. وقد حاولت الكتابة مرات ومرات عديدة ولكن دون جدوى. حتى بدأت في تجهيز حديقتها وزراعتها بنفسها، وساعدها جارها العجوز المحب للزرع والحدائق. وهنا، بدأت تروادها الأفكار رويدًا رويدًا حتى اكتملت رواية رائعة.
ومن هاتين القصتين بدأت الكثير من الأسئلة تدور في مخيلتي، فصحيح أن القصة الثانية ليست حقيقية، ولكن ألا يحدث فعلًا أن تمر بنا مواقف وأحداث، وتمر في خواطرنا أفكار، قبل أن نشرع في الكتابة، وننهال على الأوراق بالأقلام لنخط أفكارًا رائعة؟! أو لا يحدث كذلك أن تُسد جميع أبواب الإلهام على كاتب وأديب مخضرم، فلا يعرف ماذا يكتب أو يؤلف؟!
كما أن الكثير من الكتاب المشهورين الآن، لم يُعرفوا إلا بعد موتهم، ولم تنتشر أو حتى تُنشَر كتبهم إلا متأخرًا جدًا لدرجة أنهم لم يشهدوا نشرها. فـ“جين أوستن” Jane Austen الكاتبة الإنجليزية المشهورة ماتت من الفقر والمرض، ولم تشتهر كتبها بما فيه الكفاية أثناء حياتها.
والكاتب العربي الإسلامي علي أحمد باكثير صاحب مجموعة رائعة من الروايات والمسرحيات على رأسها رائعته “وا إسلاماه”، كذلك لم تشتهر مؤلفاته إلا بعد وفاته. ولم ينقص هؤلاء إتقان في الأسلوب ولا روعة في الكتابة ولكنها الأقدار!
نخلص من ذلك أن ترك الأمر للصدف وعدم الإصرار عليه في حينه خاصة فيما يتعلق بأمور الكتابة قد يغدو مجديًا أحيانًا، كما رأينا في حال الفتاة صاحبة الحديقة. ففي رأيي، الموضوع الجيد والقصة الرائعة تفرض نفسها على صاحبها وعلى الورق لا العكس.
ولكن قصة الآنسة “بوتر” من جهة أخرى تؤكد على قوة الموهبة وسيطرتها على الشخص، فقد كانت كمن لا يستطيع مقاومة الرغبة في الكتابة والرسم حتى صارا جزءًا منها. كما أن حرصها على صقل موهبتها، منحها ثقة أكثر بنفسها وبقدرتها على النشر في زمن لم تُعرف فيه النساء إلا بزواجهن المبكر، أو حصولهن على أدنى قدر من التعليم ما استطعن إلى ذلك سبيلًا!
فإذن قد يجد الكاتب نفسه أحيانًا موهوبًا بالفطرة فعليه أن يحمد الله على هذه النعمة ويحرص مع هذا على صقلها وتطويرها لئلا تفرط منه. كذلك على الكاتب ـــ كأي هواية أو شيء محبَّب ـــ ألا يفرض الكتابة على نفسه فرضًا، لئلا ينتهي الأمر بأن يكتب مادة هزيلة لا ترضيه هو ناهيكم عن القارئ. وإنما عليه أن يعطي لعقله ولنفسه فسحة ويستزيد بالقراءة والاطلاع. وأما الكاتب المخضرم فعليه أن يتقبل فكرة توقف انهمار الأفكار أو انتهائها في بعض الأحيان. فهذا لا يعني عجزه أو ضعف موهبته، وإنما يعني أنه ربما يحتاج لتصفية ذهنه وزيادة أوقات الاطلاع والتأمل، لعلها تفتح له أبواب التفكر والفهم الأعمق للحياة والأمور، ثم يجد نفسه وقد أقبل على الكتابة بحماسة أكبر وإنتاج أروع كما حصل مع “صاحبة الحديقة”!