حتى لا تصير البيتوتية مقبرة الزوجة المتميزة (1): الهواجس المعوّقة
في مقال سابق بعنوان “هل البيتوتية مقبرة المرأة المتميزة؟“، خلصنا إلى أن العبرة ليست ببيتوتية المرأة أو خروجها وعملها، بل الشأن في المرأة نفسها. ذلك أن صور الأنشطة كلها التي نقوم بها إنما هي في حقيقتها وسائل لا غايات. فما لم تكن للمرء في حياته غاية محددة المعالم والرؤى والمراحل، وعلى أساسها يحدد أقدار الوسائل وأنواعها، أيًا ما يفعل سيكون خبط عشواء. السكين مثلا آلة يختلف أثرها باختلاف مستعملها، فأثرها في يد قاتل غير الطبيب غير الطاهي، وهي هي نفس السكين.
دليل ذلك ما تجده من انقسام جمهور النساء نفسهن قسمين، قسم يستغرب كيف يمكن للبيتوتية ألا تكون مقبرة ويستشعر الحاجة للخروج والانطلاق، وقسم اشتدت حسرته على ما يشغله من الخروج والانطلاق ويتمنى لو يتاح له أن يكون بيتوتيًا متخففًا من شواغل تستنزف طاقاته. ويحضرني في ذلك أبيات لعباس العقاد:
صغيرٌ يشتهي الكبرا ** وشيخٌ ودَّ لو صَغُرا
وخالٍ يبتغي عملاً ** وذو عملٍ به ضَجِرا
وذو الأولادِ مهمومٌ ** وطالبهم قد انفطرا
ومَنْ فَقَدَ الجمالَ شكى ** وقد يشكو الذي بُهرا
فهل حَاروا مع الأقدارِ ** أم هل هم حَيَّروا القدرا؟
هذا الانقسام أكّد لي أن منشأ الخلل يكمن في أننا نترك الظروف والحياة تسيّرنا، ونرتاح إلى ما يهديه لنا هذا الطبع من رفع للشعور بالمسؤولية أو إحساس بالذنب أو التقصير، فضحية الظروف لا يمكن بحال لَوْمه عليها ولو بقدر صغير! ولأن هذا الوضع في نفس الوقت غير مرضٍ ولا مجزٍ نفسيًا أو روحيًا أو عقليًا، تكون ردة الفعل الوحيدة الباقية كثرة التذمر والشكوى والاكتئاب وكافة أشكال التفريغ العاطفي السلبي بين الحين والآخر.
في السطور التالية نعرض أولًا لأهم هواجس تطوف ببال “البيتوتية” وتتحول لعائق ذهني بينها وبين استثمار بيتوتيتها:
هاجس “الوقت لا يكفي مهما خططت”:
الخطة تعني تنظيم الوقت المتاح بالفعل، لا خلق مزيد منه من عَدَم. فمهمته أن ينبهك إلــى تلك الساعات الثمينة المهدرة أثناء اليوم، ويعينك على حسن استثمار الساعة أو الساعتين اللتين يمكن أن تتخففي فيهما من المشاغل بدل مواجهتها ارتجالًا فتكون كعدمها.
– هذه الأوقات ولو بلغت ساعتين في اليوم مجملًا، تكفي لتحقيق أكثر بكثير مما تظنين.
– أزمة التخطيط لا تكمن أبدًا في ضيق الوقت، بل غالبًا في الهمة والعزم لاستثمار ما هو متوافر منه بالفعل.
هاجس “أنتظر حتى أتفرغ”:
من قال إن “استثمار” الوقت يعني الإلقاء بكل التزاماتك من النافذة؟ هذا مطلب غير واقعي البتة، لأن المرء في عالم اليوم قلّما يكون فارغًا بالكلية، حتى وإن لم يكن موظفًا، فهناك التزامات من أنواع أخرى.
التفرغ الوحيد المحمود هو “الانقطاع لكل عمل” تصرفين فيه الوقت المخصص له بغير أي مشتتات ولا مؤثرات. جربي أن تقرأي صفحة والتلفاز مفتوح أمامك أو إشعارات الفيسبوك تلاحقك وانظري كمّ الوقت الذي يستغرقه التشتت لا القراءة! نفس الصفحة يمكنك أن تتميها بقراءة واعية في نصف الوقت أو أقل. فقط “استثمري” ما هو بالفعل فارغ في يومك على وجهه، وأعطي كل ذي قدر قَدره وكل ذي حق حقه.
هاجس “الذنب”:
ماذا لو وضعت خطة ولم يمكنني الالتزام بها تمامًا؟ سأشعر بالذنب والإحباط، فما جدوى تخطيط لا يتحقق؟
– الجواب قول الله تعالى “أفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدىأَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ” [الملك : 22]، وحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: ” استَقيموا ولَن تُحصوا”.
فقد نبهنا المصطفى عليه السلام لمكانة الإعداد والتخطيط الحقة بغير إفراط ولا تفريط: “استقيموا ولن تحصوا” أي لن تستطيعوا بحولكم وقوتكم إلا بعون الله تعالى، ولن تبلغوا أداء حقه تعالى على كل حال؛ وإنما “سدّدوا” أي الزموا هديه وسنته، “وقاربوا” أي لا تشددوا ولا تفرّطوا، “وأبشروا” برحمة الله تعالى وفضله، “فإنَّهُ لن يُدْخِلَ الجنَّةَ أحدًا عَملُهُ، قالوا: “ولا أنتَ يا رسولَ اللَّهِ”، قالَ “ولا أَنا إلَّا أن يتغمَّدَنيَ اللَّهُ منهُ برحمةٍ “، وليس العبرة بمن استكثر والسلام، وإنما بمن صدق وأخلص.
– وإن من يجتهد أن يستقيم على منهج واضح، لا ينفي إخفاقُه بين الحين والآخر كونه على منهاج واضح، ويرجى له أكثر من غيره أنه ينهض من عثرته ويتدارك نفسه، حتى يصير الانضباط له دأبًا وطبعًا، لا تكلفًا مفتعلًا كل حين.
– وصحيح أن مجريات الحياة لا تسير بالقلم والمسطرة، لكنها كذلك ليست تيارًا جارفًا لا حول لك فيه ولا قوة. فشتان بين من يحلم بتغيير العالم وهو لا يستطيع حتى تنظيم يومه أو ضبط ساعات نومه، وبين من الوقت عنده رصيد يسحب منه، كما قال الحسَن البَصْرِيّ: “يـا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذَهبَ يوم ذهبَ بَعضُك“.
– وشتـــان بين من يصحو كل يوم مبعثرًا، ويعيش حياة “شبحية” بين التلفاز والفيسبوك كيفما اتفق، أو العمل والخروج واللقاءات والأنشطة كيفما عرضت! دون أن يكون له وقفة مع النفس لمحاسبتها وتقويمها وظل طويل من عبادة الخلوة؛ ومن وضع لكل سؤال[1] منهج إجابة، سدَّد وقارَب واجتهد ما استطاع، واستعان بربه على صحتها، فذلك يُرجى له أنه الكَيِّس الذي دانَ نفسَه وعمل لما بعد الموت.
هاجس “فات الأوان”:
يكفي أن تعلمي أن العز بن عبد السلام، الملقب بسلطان العلماء وعز الدين، لم يبدأ طلب العلم إلا في سن الأربعين، وتوفّاه الله تعالى في سن الثمانين، أي أربعون سنة فقط فتح الله له فيها بتلك المكانة التي لم يبلغها أحد من بعده. وكم من عالم يطلب العلم من نعومة أظفاره وما بلغ معشاره!
إذن ما من شك في فضل الله تعالى ، وإن تكن العبرة بمن صدق ، فلا بد مع الصدق من منهجية بلوغ .
في جزء تالٍ نستعرض بإذن الله منهجية مقترحة لتعينك على تنظيم شؤونك في بيتك، والارتقاء بآفاقك في بيتوتيك.