وهم التكنولوجيا وسبيل الانتقال إلى عصر التقانة
أطلق المغربُ يومَ 8 من نونبر قمرًا اصطناعيًّا من قاعدة “كورو” الفضائية في جزيرة غويانا الفرنسية، وأسماه محمد السادس (أ) في انتظار إطلاق قمر اصطناعي ثاني سنة 2018 في كُلْفَةٍ تصل إلى حوالي 500 مليون يورو، وقد عَرَفَتْ مراحلُ تصنيع القمر الاصطناعي وإطلاقِه للفضاء حضورَ مهندسِين عسكريين مغاربة موزَّعينَ بين فريقٍ يوجد في قاعدة غويانا الفرنسية، وآخَر في القاعدة العسكرية قُرْبَ مدينة سَلَا المغربية، وهي قاعدة التحكُّم الموكول إليها تتبع الرصد الذي يَطَّلع به القمر الاصطناعي، واستقبال 500 صورة يوميًّا، موثقة بدقة عالية.
مما لا شك فيه أن إطلاق قمرٍ اصطناعي من طَرَفِ دولة معينة يُعَدُّ كسبًا لها في جملة من القضايا، العلمية والأمنية والعسكرية ومراقبة الحدود والكوارث الطبيعية وغيرها، كما أشير إلى ذلك على أكثر من لسان، وهذا ينبغي الإشادة به، لكن ما يتم إغفاله هو المفارقة الكبيرة بين سعيٍّ للإبحار في الفضاء في مناخ علمي يعاني التصحر، ومنظومة تربوية معطوبة من زمن بعيد، تراكم فيها الفشل تلو الفشل، وهو ما يجعلنا دومًا سُوقًا للمنتجات العلمية _بعضها ينتمي للخردوات_ دون تملك ناصية التقنية والصناعة.
إن ما يطرحه القمرُ الاصطناعي الذي يُحَلِّق في السماء، هو الحاجة إلى نقد الذات والتساؤل حول إسهامنا في هذا المنتج، أو من جانب آخر.. هل سنكون مجرد حاويات تتلقى ما يبعثه القمر الاصطناعي من صور، أم إنه سيتملكنا التفكير في الانخراط الحثيث في مجتمع المعرفة والاندماج في روح العصر؟
إن واقعنا في حقيقته أقرب إلى البدائية مع مظاهر التحضر التي تطبع، لكنها مظاهر وزينة لا تمثل جوهر التحضر، فهو تكديس للأشياء “بحسب عبارة مالك بن نبي” ووقوع تحت سلطتها دون امتلاك فعالية الأفكار التي تجعل التقنية “الأشياء” تسير سيرًا متناغمًا في أفق التركيب الحضاري الخلاق _الذي تتفاعل فيه الأفكار والأشخاص والأشياء دون إفراط ولا تفريط_ والتخلص من التخلف الذي يصير تخلفًا مركبًا حين يغيب عنا الوعي به، أو حينما نعتبر أن امتلاك قمر اصطناعي أو هاتف ذكي أو سوق للمنتجات الحديثة وتباهٍ في العمران _كما هو حال دول نشأت في حضن الرمال منتشية بأشياء الحضارة دون تمثلها ثقافة وفكرًا وسلوكًا اجتماعيًّا؛ إذ بنت أبراجًا كبيرة على أبراج التخلُّف التي غَلَّفتْ العقلَ، وسلبته وظيفته_ هو نمطٌ من أنماط التحضر وجزءٌ من عملية التنمية والتحديث، بينما يخرج التحضر من رحم الأفكار، وليس في امتلاك الوسائل التي أوقعت الإنسان أسيرًا، وسلبته حريته، وأَسْرُ المجتمعات المتخلفة لها مزدوج، من حيث افتقادُ المنطق العلمي الذي يجعلها منتجة لها ثم الوقوع في نزعة وشر الاستهلاك وتبعاته.
وإلى مدى تأرجح مجتمعاتنا المتخلفة بين شح الأفكار ووفرة الوسائل أو الأشياء وطبيعة التعالق بينهما يعتبر مالك بن نبي في صياغته لقانون حضاري أن “المجتمع المتخلِّف ليس موسومًا حتمًا بنقص في الوسائل المادية (الأشياء)، وإنما بافتقار للأفكار، يتجلى بصفة خاصة في طريقة استخدامه للوسائل المتوفرة لديه؛ بقدر متفاوت من الفاعلية، وفي عجزه عن إيجاد غيرها، وعلى الأخص أسلوبه في طرح مشاكله أو عدم طرحها على الإطلاق، عندما يتخلى عن أي رغبة ولو مترددة بالتصدي لها” (مالك بن نبي، مشكلات الأفكار في العالم الإسلامي).
إن الافتقار للأفكار ذات الفعالية التي يمكنها إنهاض المجتمعات بالاستثمار في العنصر البشري “الإنسان” تربيةً وتعليمًا وتثقيفًا بما يجعله قادرًا على حمل رسالة الواجب الحضاري وتطويع الوسائل في أفق تملكها وإنتاجها هو ما ينقص المغرب وكل دول العالم العربي التي تعيش نفس المشكلة الحضارية الناتجة عن غياب المناخ العلمي السليم، الذي لا يمكن توفيره إلا من خلال استراتيجيات النهوض بمجال البحث العلمي والمنظومة التربوية لتجاوز اختلالات السياسات التعليمية المتعاقبة.
سيكون من باب التنجيم التفاؤلُ بشأن ذلك دون ربطه بماديات تحقق الديمقراطية والحرية التي تكفل الإبداع وتوفر الضمانات للكفاءات العلمية، التي أصبحت تهاجر بحثًا عن مناخ يجعل من الرهان على العلم أولوية، ولْنبحث عن الأسماء العربية والمغربية ارتباطًا بمقالنا التي تشتغل بفعالية في مؤسسات علمية كبرى بالدول الغربية وعن الأسباب التي دفعتها إلى الهجرة، ومن ثم فإن احتضانها والنظر إلى النهوض باعتباره مسألة منظومية يتداخل فيها الشرط العلمي التعليمي بالسياسي والثقافي والمجتمعي، سيجعل المغرب والعديد من الدول العربية قادرًا على تحقيق الانخراط الفعلي في إنتاج التكنولوجيات الحديثة ومنها ريادة الفضاء، ومنه إلى مجتمع المعرفة التي أصبحت قبلة التنافس العلمي.
إن استيراد المنتجات لن يحقق تقدمًا أو تنمية ناهيك عن النهضة فإنها بعيدة المنال دون الاشتغال على أسس التقدم وشروطه كما أسلفنا، والتي ينبغي أن تفعل بالتوازي مع هاته المبادرات على استراتيجيات بعيدة المدى، وما لم يتحقق ذلك وهو غير متحقق نظرًا لأزمة واقع البحث العلمي فإننا سنبقى مستودعًا لمنتجات غيرنا وأفكاره وبالأحرى مطرح نفايات ومخبرًا للتجريب، والقول بالانخراط في عصر التقانة بإطلاق قمر اصطناعي أو غواصة أو قطار سريع أو حاسوب هو وَهْم كما يعبر عن ذلك صراحة عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة، وهي صراحة ينبغي أن توقظ النائمين من غفلة عُمِّرَت طويلًا.
ختامًا: وفي سياق الحديث أُذَيِّلُ المقالة بمقتطف يكشف العوار الذي أشرنا لبعض ملامحه على أمل تجاوزه في الوعي بداية لدى الكثير من المنبهرين بتوظيف ما لا نملك من التكنولوجيا في أفق استثماره عمليًّا في رؤى وسياسات دولنا، يقول العبقري وصاحب العقل الحاد المهدي المنجرة:
“لا يعد وَهْمًا نقلُ العبارات، ولكن الوهمَ الحقيقي الاعتقادُ بنقل التكنولوجيا، فاستيراد الحاسوب أو تركيبه في المصانع المحلية، والتعامل مع الإنترنت لا يعني أنك نَقَلْتَ التكنولوجيا، لأن هذا لا تقوم له قائمة إلا بالأبحاث العلمية وتدخل عناصر هامة لإنتاج التكنولوجيا المستلزمة لتركيب ذهني عقلاني، والمرتبط مباشرة بعالم العلم والمعرفة، وهذا العلم متصل بالطاقة البشرية. وحتى ينتج المخزون البشري يتطلب الأمر توفير مناخ حر، أي مساحات من الإبداع والديمقراطية والحرية وتمكينه من الآليات العلمية لإنجاز البحوث”. (المهدي المنجرة، زمن الذلقراطية)
فهل نعي أن أزماتنا ومشكلاتنا مركبة ومنظومية.. وكذلك ينبغي أن يكون التفكير في تجاوزها حتى لا نقع في وهم امتلاك التكنولوجيا.