كيف نستفيد من نظرية “القابليّة والفاعليّة” في مجال التعليم؟
أورد الشيخ والصحفي اللبناني مصطفي الغلاييني في كتابه “أريجُ الزّهر” نظريته التي تسمّي “القابليّة والفاعليّة”، ولا أعرف إن كان هو أول من ابتدعها أم لا، إلا أنه عرضها على وجه حسن، وهي نظرية مثيرة للاهتمام من شأنها أن تغيّر مجرى حضارات وأمم بأسرها إذا ما درسناها وطبّقنا مفرداتها على واقعنا أولًا بأول.
وهي نظرية واسعة يمكن أن تُطبّق في الكثير من الحقول والمجالات، إلا أننا سنحاول في مقالنا هذا أن نُطبّقها في مجالي التعليم والسياسة
ما هي القابلية والفاعلية؟
يقول الشيخ مصطفى الغلاييني: “إن كل عملٍ لا بد لحصوله من القابليّة والفاعليّة، فإذا عُدمتَ إحداهما بَطَل العمل”.
والقابلية هي “الاستعداد” الذي يتحلّى به الحيوان أو النبات أو الجماد للترقّي عمّا هو فيه إلي ما هو أسمى وأفضل وأرقى، أو لما هو أحطُّ وأدنى.
وأما الفاعليّة فهي “المؤثر” على هذه المواليد الثلاثة (الحيوان والنبات والجماد)، ارتقاءً أوانحطاطًا.
ويقول الشيخ مصطفى الغلاييني إن الله قد خلق تلك المواليد، وجعل فيها استعدادًا (قابلية) للخير والشرّ أو للترقّي والتدنّي، ويتفاوت هذا الاستعداد باختلاف الخلائق وتنوعهم.. ثم خلق لهذا الاستعداد أسبابًا أو مؤثّرات (فاعليّة) تنفّذه وتحققه.
ويضرب الشيخ مصطفي مثالًا فيقول إنك إذا ذهبت إلى أرضٍ بور ليست صالحة للزراعة، وحاولت جاهدًا أن تزرعها، فبذرت فيها البذور ورَوَيْتها جيدًا بالماء، فإنها أبدًا لن تُنبت، ولو أنبتت كان هذا النبات قليلًا أو رديئًا، وذلك لأن الفاعلية (التأثير) موجودة ولكن القابلية (الاستعداد) معدومة.
ولو أتيت بقطعة من الخزف أو الفخّار وضربتها بالمطرقة على أمل أن تشكّلها إناءً فإنّها ستتحطّم، وأما إذا أتيت بها إلى صانع، فسيقوم بتشكيلها على الوجه الصحيح حتى يصنع منها إناءً صالحًا للاستخدام، وفي الحالة الأخيرة تلازمت الفاعلية مع القابلية، لذا نجح العمل.
نظرية القابلية والفاعلية في السياسة
على ذلك يقرر الشيخ مصطفي الغلاييني أن الأمم التي يوجد لها فاعلية، وليست فيها قابلية ليتحقَّق معنى الاستقلال، يجب أن تربّى، وأن يُبَثّ فيها روح النشاط والحياة الاجتماعية، حتي إذا تمكنت منها تلك الروح تحلّت الأمم بالقابلية وصار فيها استعداد لما تُلقيه إليها تلك الفاعلية.
والأمم التي يوجد فيها قابلية، وليست لها فاعلية تؤثّر فيها وتنهض بها، فيجب أن يذهب أفراد منها لتلقّي العلم والسياسة وتعلم الأعمال المفيدة والصناعات حتى يتمكنوا منها ويدرسوها جيدًا. وعندئذٍ يأتوا بلادهم فينشروا تلك العلوم بين أقوامهم ويبثّون فيهم ما درسوه وما فهموه، فتصير لديهم فاعلية تأخذ بأيديهم لتحقق الرخاء والازدهار.
فليست القابلية إلا الاستعداد للشيء، وليست الفاعلية إلا طائفة من كل أمة امتازت بالحكمة والعلم والمعرفة، فتنهض بهذه الأمة وتنافس أرقى الأمم والحضارات على وجه البسيطة.
ويردف الشيخ مصطفى:
“يجب ألا تنتظر الأمّة المساعدة الخارجة، ولا تعتمد في ترقيتها ونجاحها إلا على نفسها، لأن تلك المساعدة متى انقطعت قبل أن تصل الأمّة إلى الغاية المقصودة، تقهقرت، ورجعت إلى شر مما كانت عليه”.
ويقول أيضًا في موضع آخر:
“يجب ألا يرتقب الشعب المساعدة من الحكومة، بل يجب عليه أن يساعد الحكومة بمادياته وأدبياته، لأن الشعب الذي يكون عالة علي الحكومة يثقل كاهلها”.
نظرية القابلية والفاعلية في التعليم
هنا يأتي بيت القصيد، إن مشكلة التعليم الأساسية في الوطن العربي هي غياب أحد الأمرين عن نظام التعليم، فتارة تغيب الفاعلية، وأخرى تغيب القابلية، وأحيانًا تغيب الاثنتان!
إن ما أعنيه بالفاعليّة هنا هو الأستاذ، المدرسة، المنهج التعليمي، وزارة التعليم، الحكومة .. إلى آخره من الأشخاص أو الجهات التي تؤثر على الطالب، والتي من شأنها اتخاذ القرارات ومن مهامها النهوض بالتعليم وترميمه وإصلاحه وإعادته إلى الحياة، لكن الآن حتى الأعمى قد أبصر وأدرك على نحو واضح أن كل هؤلاء قد فشلوا في المهمة، وما زالوا يفشلون!
وما أقصده بالقابلية في التعليم هو الطالب، فهو محور التعليم الأساسيّ، وهو البذرة التي نضعها في الأرض حتى تنبت زرعًا خصبًا، وهو النبتة الصغيرة التي نرعاها ونهتم بها لكي تكبر وتؤتي أكلها.
وأما عن تلك الأحايين التي تغيب فيها الفاعلية وتتجلّى القابلية، فإن ذلك يحدث عندما لا تكون المناهج التعليمية معدَّة على النحو الصحيح، ولا يكون الأستاذ أستاذًا بل جلادًا، وتتحول وظيفته من التربية والتعليم إلي الجلد والسب والإهانة، وحتي إذا لم يضرب فإنه يكون ضعيفًا في مادته غير قادر على شرحها بالصورة الوافية، كما تكون الوزارة متخاذلة متساهلة في الحقوق والواجبات غير مراعية أو مكترثة بالمسؤوليات المُوكَلة إليها، والحكومة من ورائها لا تهتم بإصلاح التعليم.
ربما يهمك الاطلاع على
طلاب مصر مهددون بأنواع من العنف.
في حين أن الطالب أو المجتمع نفسه يكون لديه القابلية للتعليم، فهو يقدّر العلم والمعرفة أحسن تقدير، ويساهم في تعليم أولاده ولو اضطر الوالد منهم إلى بذل الآلاف، ويكون مستعدًا لمقاساة المتاعب والصعاب من أجل أن يتلقى ولده أفضل تعليم، فالمجتمع لديه القابلية (أي الاستعداد)، ولكن لا توجد فاعلية لتحقق هذه القابلية.
وأما عن تلك الأوقات التي توجد فيها الفاعلية (المؤثر) ولا توجد القابلية (الاستعداد)، فإننا نرى الهيئات والأشخاص المنوطة بمسؤولية التعليم نشطة وفعّالة وتؤدي مهمتها بتفانٍ وإتقان، كما أن نظام التعليم والمناهج التعليمية رائعة.
إلا أن القابلية ليست موجودة، فالمجتمع لا يكترث للعلم، ومن يكترث لا يعرف لماذا يكترث، فهو قد وُلد وذهب إلى المدرسة وتخرج من الجامعة وهو لا يعرف شيئًا، ولا يعرف فائدة لما تعلمه، وهذا نراه منتشرًا في معظم الدول العربية، فالطالب العربي يذهب المدرسة في كل صباح ولا يعرف لماذا يتعلم!
وإذا سألت طالبًا في المدرسة الاعدادية أو الثانوية عن سبب ذهابه للمدرسة، فسيخبرك بأنه يذهب لأنه يخاف من الأستاذ أي يضربه، أو يخشى من والده أن يعاقبه.. أو ربما يخبرك بأنه يدرس لكي يحصل على وظيفة، فمتى اقتصرت غايات العلم على “البحث عن الوظائف”!!
شاهد هذا الفيديو كي تُدرِك حجم هذه المشكلة في النظام التعليمي.
ربما يهمك الاطلاع على
طلاب مصر ممنوعون من حقّ التعليم في السجون!
وتتمثّل الكارثة الكبرى في عدم وجود أي من الصفتين، فلا توجد فاعلية ولا توجد قابلية، وهنا يصبح التعليم في أحطّ درجاته، كما يقتصر علي الشهادات والتقديرات، وهي كلها أوراق لا تفيد في شيء. والطالب يظل يدرس طوال العام ليحفظ عشرات الصفحات المليئة بالمعلومات المعقدة، ثم يذهب ليفرغها في الامتحان ويخرج من الامتحان وهو لا يذكر أيّ شيء.
ومما يثبط القابلية في التعليم ويعدمها، أن يُحمل الطالب على دراسة شيء هو لا يستطيع أن يتعلّمه، فهو لا يحبه ولا يميل إليه، ومع ذلك يُجبر على تعلمه..
إننا نرى الكثير من الطلاب الممتازين في الرياضيات والفيزياء ولكنهم لا يحبون أن يدرسوا التاريخ أو الأدب، ومع ذلك يدرّسونها إجبارًا، فيضطر الطالب إلى ترك المادة التي يحبها لكي يدرس المواد التي تتسبب في شعوره بالملل، فتقتصر دراسته علي الحفظ والصم ليذهب إلى الامتحان لكي يفرغ كل هذه المعلومات التي يكترث لها.
وفي ذلك يقول الشيخ مصطفى الغلاييني في كلمات بليغة:
“لو أتيت بإنسان وحملته علي أن يتعلّم علمًا، ليس في استطاعته أن يتعلّمه، لعدم الميل إليه، أو لضيق عقله عنه، فلا يتعلّم ذلك العلم ولو أتيت له بأمهر المعلّمين وأبرع الأساتذة؛ ذلك لأنه لم يكن فيه استعداد (قابلية) يؤهله لتعلّم ما تريد تعليمه إياه.
وهذا هو السر في عدم نجاح كثير من طلبة العلوم وتلاميذ المدارس، لذلك يجب أن يُنظَر في مَيْل التلميذ ورغبته ومقدار عقله … وإلا ضاع عمره ووقته ومستقبل أيّامه سدى”
يمكنك الاطلاع على
فلسفة أن تتمنَّى الرّسوب!
ويتابع قائلًا:
“ولو أتيت بمعلم لا يعرف ذلك الفن وهو غير متقِنٌ له، فلا يمكن للتلميذ أن يتعلم هذا الفنّ، ولو مكث بضع سنين؛ ذلك لأن القوّة المؤثرة (الفاعلية) مفقودة، وهذا هو السر في ضياع كثير من التلاميذ وإضاعة أوقاتهم على غير جدوى ولا فائدة”
الخلاصة:
إنك إذا أتيت بتلميذ فيه القابلية والاستعداد لدراسة وتعلم هذا العلم، وجعلت عليه معلمًا قادرًا على تدريس ذلك العلم مع منهج وبيئة مثاليين، فإننا نكون قد حققنا غايتنا من التعليم..
لمزيد من المعلومات عن الشيخ مصطفى الغلاييني وكتابه “أريجُ الزّهر”، اقرأ مقالي المنشور في موقع إضاءات: