من أين جاءت اللغة؟
في حادثة كانت الأولى من نوعها، وقعَت فتاة صغيرة تدعى جيني ضحيةَ عنفٍ أسريّ سببُه والدُها الذي كان يهدِّد والدتها من الاقترابِ منها أو منحِ ابنتها الحرية، فقضَت أهمَّ سنواتِ حياتِها الأُولى معزولةً ومقيدةً داخلَ غرفة في مدينةِ لوس أنجلوس، حيث قام بفصلِها نهائيًا عن البشر منذُ أن وُلدت.
في عام 1970 طالبَت الأمّ بمأوى لها ولابنتِها البالغة من العمر ثلاثةَ عشرَ عامًا، من منظمة حماية الأطفال، بعدها حصلَت على دعمٍ كبيرٍ وضجَّ العالَمُ بقضيةِ جيني، وكانَت محطَّ اهتمامِ العلماء، وخُصوصًا علماءَ اللغة، حيث إنَّ جيني كانت غيرَ قادرةٍ على الكلامِ والنطق، وكانت تصرفاتُها أقربَ إلى الحيوانِ من الإنسان.
لم تكن قادرة على التعبيرِ عن نفسِها، والتجاوبِ مع محيطِها، وبعدَ عدةِ سنوات من التدريب والتعليم على أيدي مختصينَ في اللغة وغيرهم استطاعت التفوُّهَ بعدةِ كلمات.
لكنَّ الاختلافَ الذي وقعَ بين العلماء هو هل استطاعت جيني التحدُّثَ كغيرِها من البشر، واستخدامَ اللغة بشكلٍ صحيح، أم إنها كانت تقلِّدُ الاصواتَ ليس إلّا؟ أي كما تفعل الحيوانات التي حاول العلماء تدريبها على تعلم اللغة ونجحوا في جعلها تقلد بعض الاصوات، لكنهم اكتشفوا فيما بعد، أن الحيوانات غير قادرة على استخدام اللغة.
الكثيرُ من العلماءِ رجَّحوا أنّ جزءَ العقلِ المسؤولَ عن اللغةِ والكلام لم يتمَّ تحفيزُه في السنوات الأكثر أهمية في عمر جيني، وهي السنوات الاولى من عمر الإنسان، وبالتالي تمَّ تعطيل هذا الجزء بشكلٍ كبير، إلا أنها استطاعت مع مرورِ الوقتِ لفظَ بعضِ الكلماتِ كما يفعلُ الأطفالُ الصّغار، على الرَّغمِ من أنّ تطوُّرَ اللغةِ لديها كانَ يسيرُ أبطأَ بكثير، لكنّها استطاعت في النهاية تعلُّمَ بعضِ الكلماتِ للتعبيرِ عن نفسِها.
لعل اللغةَ هي أكثرُ العلوم التي اختَلف عليها علماؤها، لكنّ ما اتفقَ عليه الجميعُ هو أنّ الإنسانَ لا يستطيعُ أن يعيشَ بلا تواصُلٍ مع الآخرين، وهذا ما ميَّز اللهُ به الإنسانَ عن باقي مخلوقاتِه، اللغةُ هي التي تقومُ على أنسنة البشر، بجعلهِم أناسًا، اختلف العلماء مثلًا على تعريف اللغة وطريقة تعلمها.
فاللغةُ بالنسبة لـ ستيفن بينكر هي غريزةٌ فطريةٌ، وهي مقدرةٌ ربانيةٌ كامنة في عقول البشر تُمكّن الإنسان من استخدامِ اللغة.
أما بالنسبة لعالِمِ اللغةِ تشومسكي فقد حدّد اللغة بأنها مجموعةٌ من الأصواتِ والأحرف، أي إن اللغةَ عبارةٌ عن نظام محدّد، ولولا وجودُ هذا النظامِ لما تمكن الإنسان من تعلُّم اللغة.
يمكنك الاطلاع على
كيف يكتسب الأطفال اللغة؟ وهل يمكن تعليمهم عدة لغات؟
في العودة للحديث عن جيني، جيني في تعلُّمها للغة تشبِهُ إلى حدٍّ كبيرٍ تعلُّمَ الطفلِ للُغتِه الأولى، لكنَّها كذلك تشبهُ الشخصَ الذي تجاوزَ مرحلةَ الطفولة، وبدأَ بتعلُّم اللغةِ الثانية في المدرسة، في الحالة الأولى يكتسبُ الطفلُ اللغةَ بالفطرةِ بشكلٍ طبيعيّ، من المقدرةِ الكامنة الموجودةِ في عقولِ البشر والتي تُمكن الإنسان من اكتسابِ اللغة، وتكونُ هي اللغةُ الأمّ بالنسبة لأي شخص طبيعي، والتي لا نعرفُ طريقة تعلّمها، ولم يقم أيُّ إنسانٍ بتعليمنا اللغةَ الأمّ، والتي تعتمِد على المقدرةِ الكامنة، بشكل كبير، ومن ثَمّ البيئة والمحيط الذي يعيشُ فيه هذا الانسان، ويفضل العلماء استخدام مصطلح “اكتساب” في هذه الحالة أكثر منها تعلم.
وفي الحالة الثانية، يتمّ تحديدُ اللغة في نظام معيّنٍ قابل للتعلّمِ من قبل الإنسان، أي إنّ كلّ نظام لغويّ يحتوي على عدةِ أنظمة، كنظامِ الأصوات، النحو والصرف، نظام الدلالة، إلخ، اللغةُ في هذه الحالةِ تكونُ ضمنَ قوانينَ محددة، وضمنَ عددٍ محدّدٍ من الأصواتِ والأحرف، وعددٍ لا محدودٍ من الجملِ التي تترتّب فيها الكلماتُ والأحرُف بشكلٍ منظّم ضمنَ أُطر وقواعدَ توضحها كلُّ لغة حسبَ قوانينِها التي تفرِضها، والتي يصبح بإمكانِ الإنسانِ تكوينُها في مراحلَ لاحقة من تعلّم اللغة، ونشدد هنا على استخدام مصطلح تعلم اللغة.
وإذا قلنا إن اللغةَ هبةٌ من الله، وإن الإنسانَ لديه مقدرة كامنة داخلَ الدّماغ تمكِّنُه من استخدامِ اللغة واكتسابِها، وإنّ الإنسانَ تميّز بها عن سائرِ مخلوقاتِ الله سبحانه وتعالى، فمن أين جاءت اللغةُ في الأساس؟..
اختلف العلماءُ كذلك في أصلِ اللغة، فمنهُم من قال إن اللغةَ من صنعِ الإنسان، ومنهم من قال إنها ذاتُ أصلٍ إلهي، وقد جاء قول الله تعالى في سورة البقرة: ((وعلّم آدمَ الأسماءَ كلَّها ثم عرضهُم على الملائكةِ فقال أنبئوني بأسماءِ هؤلاء إن كنتم صادقين)).
وجاء في بعض التفاسير لهذه الآية، أنه علّم الإنسان اسم كلِّ دابة وكلِّ طير وكلِّ شيء.
فسبحان الله الذي علّمنا، فقد جاء في كتابه الحق في سورة العلق: “علّم الإنسان ما لم يعلم”. صدق الله العظيم