ثورة الذكاء الاصطناعي: هل ما يزال الإنسان سيد الآلة؟
لم يعد وجه من أوجه النشاط البشري يخلو من استخدام الكمبيوتر بشكل أو بآخر. بل إن الاستخدام اليومي المتكرر لهذه الآلات جعل كلمة ” كمبيوتر ” مألوفة للأسماع، ربما بدرجة أكبر من أيّ آلة أخرى من عشرات الآلات التي نستخدمها في حياة اليوم.
وقد تطورت صناعة الكمبيوتر، أو ” الأدمغة الإلكترونية ” بالتعبير الدقيق، في السنوات الأخيرة، تطورًا مذهلًا، بحيث لم يعد عملها قاصرًا على حل المعضلات الرياضية وإجراء العمليات الحسابية المعقدة. فقد استخدم الكمبيوتر لحجز المقاعد للمسافرين على الطائرات، كما استخدم لتلبية طلبات الزبائن في المحلات الكبرى. بل فوق ذلك، فإن الكمبيوتر يرسم سياسة تسويق السلع، ويقدم المشورة بشأن أفضل الطرق لاستثمار الأموال.
والاتجاه الحديث في البلاد المتقدمة الآن، هو استخدام كمبيوتر يستطيع أن ينقل المعلومات من ذاكرته إلى مئات التلاميذ في وقت واحد! وهذا ما يعجز عنه أي مدرس.
أضف إلى ذلك أن الكمبيوتر لا يعرف التعب، وطاقته على العمل غير محدودة، وصبره لا ينفد. كما أن الكمبيوتر لا يعرف مشاغـل الحياة الأخرى التي تشغل بال المدرس، وهو لذلك أصفى ذهنًا وأقدر على التعليم.
وقد عضد الاتجاه الجديد لاستخدام الكمبيوتر في حقل التدريس صناعة أنواع جديدة من الأدمغة الإلكترونية تسمع وتتكلم وتتذكر كل شىء. ولا شك أن غزو الكمبيوتر لحقل التدريس أمر قد يترتب عليه أن يفقد آلاف المدرسين وظائفهم، مثلما حدث من قبل مع المحاسبين والكتبة وعمال المطابع.
فهل يأتى اليوم الذي يغزو فيه الكمبيوتر كل أوجه النشاط البشري، فيحال الإنسان إلى التقاعد، ويصبح بالتالي مهددا بالانقراض؟!
هذا هو السؤال الذي نحاول هنا الجواب عليه ، من خلال استعراض سريع لنشأة الكمبيوتر ، وتطور صناعته ، والأبعاد التي يمكن أن يصل إليها في المستقبل .
نشأة الأدمغة الإلكترونية:
ولد الكمبيوتر في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين. وكانت الفكرة من صناعته هي محاكاة المخ البشري. ولكن الكمبيوتر في مهده الأول كان يعمل بكفاءة تقل عن كفاءة المخ البشري بليون مرة ( ألف مليون مرة ). وكانت ذاكرته تتكون من أنابيب مجوفة، لم يكن في وسعها أن تختزن سوى مقدار ضئيل جدًا من المعلومات. ولكي يختزن ذلك الكمبيوتر البسيط المعلومات التي تختزنها ذاكرة إنسان، فيجب أن تشغـل الآلة مساحة تفوق مساحة مدينة كبرى، ويلزم لتشغيلها كل الطاقة الكهربية المتولدة عن سد ” جراند كولي ” ( في الولايات المتحدة ).
تطور صناعة الكمبيوتر:
في عام 1960، تمكنت شركة ” IBM ” الأميريكية – وهي الشركة الرائدة في صناعة الكمبيوتر – من اختزال حجم الآلة، عن طريق استخدام مكونات أصغـر، سميت ” ترانزستور Transistor “. وفي عام 1964 حققت نفس الشركة نجاحًا علميا منقطع النظير باختراع نمط جديد لذاكرة الكمبيوتر، أطلق عليه اسم ” الشرائح الدقيقة – Microchips “. ( الشرائح الدقيقة جزء من نظام معـقد لذاكرة الكمبيوتر اسمه The bubble memory ).
واستطاعت تلك الذاكرة الجديدة – في حينها – أن تختزن حوالي مائتين وخمسين ألف ( 250,000 ) مادة، في مساحة لا تتجاوز 3 / 16 من البوصة المربعة. و كان ذلك الجيل من الكمبيوتر يعمل بكفاءة تقل عن كفاءة المخ البشري عشرة آلاف مرة فحسب. ( كان الجيل الأول يعمل بكفاءة تقل عن كفاءة المخ البشري ألف مليون مرة ). وتوقع علماء الكمبيوتر أن تنعدم الفجوة تمامًا بين المخ البشري والأدمغة الإلكترونية في المستقبل المنظور.
كذلك يتوقع العلماء أن يصبح الكمبيوتر، في غضون العشرين سنة القادمة، المستشار الوحيد لرؤساء الدول المتقدمة حول كل شؤون البلاد، بما فيها الاقتصاد والأمن القومي.
الكمبيوتر في المستقبل:
خيال العلماء طموح ولا يقف عند حد. ولم يقنع العلماء بما حققوه من تقدم في صناعة الأدمغة الإلكترونية، ففكروا في صناعة كمبيوتر له مشاعر وعواطف، مثل الإنسان تمامًا. وكان صاحب هذه الفكرة ” د . آرثر صمويل “ – أحد العلماء في شركة IBM – الذي اكتشف أن الكمبيوتر يمكن أن يتعـلم أسرع، ويعمل أكفأ، إذا كانت لديه روح المنافسة.
وقد صمم د . آرثر دماغًا إلكترونيًا للعب الشطرنج، وغذّاه بروح المنافسة، عن طريق تلقينه برنامجًا يحثه على ضرورة التفكير بدقة وبسرعة وإعداد الخطط مسبقًا. وكانت نتيجة التجربة مدهشة حقًا ، فقد استطاع ذلك الكمبيوتر أن يهزم د . آرثر نفسه عدة مرات في مباريات الشطرنج. بل إن ذلك الكمبيوتر استطاع أن يهزم أحد أبطال العالم في اللعبة، ولم يكن ذلك البطل خسر مباراة واحدة طوال ثماني سنوات.
وكمبيوتر الغـد، لن يكون مجرد آلة تختزن المعلومات وتقدمها عند الحاجة، بل سيتعـدى ذلك إلى حد رسم استراتيجيات جديدة لمواجهة تحديات غير منظورة. كما ستكون ذاكرته من التعقيد بحيث تتسع لكمّ هائل من المعلومات في شتى حقول المعرفة. وهذه الذاكرة المعقدة ستمكنه من بناء خبراته الخاصة، وستزيد من قدرة الكمبيوتر على إعطاء القرار السريع الدقيق.
صراع من أجل البقاء:
يقول العالم آرثر هوسبيرج Arthur Hauspurg: ” عندما انقطع التيار الكهربائي عن مدينـة نيويورك، في شهر أغسطس / آب من عام 2003، استشار الرئيس الأميريكي عددًا كبيرًا من معاونيه، وكذلك مدير محطة الكهرباء، ومدير الخدمات العامة، ورئيس بلدية نيويورك، في محاولة منه لحل تلك المشكلة. ولو كان هناك كمبيوتر مركزي واحد – في ذلك الوقت – لاستعان به الرئيس. فالكمبيوتر أسرع كثيرًا من مخ الإنسان في صنع القرار وقت الأزمات “.
وهذه حقيقة علمية. ذلك أن مخ الإنسان لا يستطيع التعامل مع عدد من المشكلات في وقت واحد. وكثيرًا ما نسمع من شخص غارق في المشاكل قوله: “لم أعد قادرا على التفكير ” ، أو : ” إلى هنا وعقلي تجمد”.
ولا شك أن قدرة الكمبيوتر على اتخاذ قرار أسرع من الإنسان، جعلت الاعتماد عليه متزايدًا في جوانب كثيرة من حياة اليوم. كما أن كفاءة الكمبيوتر، وقدرته على العمل المتواصل بغير تعب، نَحَّتْ الإنسان عن أعمال كثيرة، ليحل محله الكمبيوتر، كما حدث – مثلًا – في مجال طباعة الصحف.
فهل انتهت الأسطورة التي تقول: ” الإنسان سيد الآلة”؟! وهل يعني تطور الكمبيوتر مزيدًا من نبذ الإنسان إلى هامش الحياة؟!
يتنبأ بعض العلماء – مثل د . روبرت جاسترو، وهو عالم في الفيزياء والفلك والجيولوجيا، ومؤسس ” معهد دراسات الفضاء ” في مدينة نيويورك – بأن العقل البشرى سيحاول التطور من جديد، لينافس الكمبيوتر من أجل البقاء. فقانون الطبيعة ثابت وقديم، وهو ” البقاء للأصلح “.
ويستند في نبوئته إلى تفسير “داروين” لانقراض الديناصور، والذي يقول إن الديناصور انقرض لأنه كان أقل ذكاء من الحيوانات الأخرى التي عاشت في عهده، فلم ينجح مثلها في التكيف مع الحياة، فلفظته الحياة.
فهل يَلْقَى إنسانُ المستقبل نفسَ المصير الذي لقيه الديناصور من قبل؟!
لا سبيل للتراجع:
لو أن قائلاً قال اليوم: “كفوا عن استخدام الكمبيوتر”، لاتهمه الجميع بالجنون. فالكمبيوتر تغلغل في حياة الإنسان اليوم تغلغلًا عميقًا، إذْ لم يعد يخلو نشاط بشري في أي حقل من الحقول من الاعتماد علي الكمبيوتر، وليس علي مجرد استخدامه، بحيث أصبح التراجع عن استخدام الكمبيوتر ضربًا من المستحيل.
و” د . روبرت جاسترو “، الذي تنبأ بتطور المخ البشرى لينافس الكمبيوتر، يرى أن أمريكا لو كفت عن استخدام الكمبيوتر اليوم، فستعم الفوضى جميع أوجه الحياة.
ليس من سبيل إلى الرجوع. ولا نملك ونحن نتابع صراع الإنسان مع الكمبيوتر من أجل البقاء إلا أن نردد كلمة ” د . ج . برنال” Dr. J. Bernal ، عالم الكيمياء البريطاني:
” قد تكون نهاية البشر قريبة، وقد تكون هناك بداية لحياة جديدة، لكن من منظار اليوم فإن ذلك المستقبل يظل وراء اللا منظور” .