بساتين ” فريدريك فروبل ” التي منحت الأطفال حياة جديدة
تجاوز عمرك الـ50 عامًا فلماذا لم تهدأ بعد يا “فريدريك”؟ بعد كل تلك السنين ما زال قلبك يتقافز كقلب رضيع باكٍ ولم يهدأ.
عمَّ تبحث؟ ما زال داخلك يبحث عن سنوات عمرك الأولى. تلك السنوات التي سُرقت منك، ولم تحيها قط.
ما زلتَ تبحث عن جنة طفولتك المفقودة.
يتحدث إليه صديقاه؛ فينظر إليهما نظرة شاردة، ويبدو أنه غارق في أفكاره الخاصة.
بلهجة بها بعض اللوم ينبهانه ألا يشرد؛ فأمامهم نهر يجب أن يعبروه.
و”كيف تشرد وأمامنا الطبيعة بجمالها وكل تلك الحدائق والبساتين؟”
وأثناء عبورهم النهر تلتمع عيناه ويصرخ قائلًا “نعم بساتين! لقد وجدتها”
فيسأله صديقاه باستغراب “وجدت ماذا؟”
فيجيب والفرحة تنير قسمات وجهه وجدت الاسم الذي سوف أطلقه على معاهد الأطفال سوف أسميها “بستان الأطفال”، “روضة الأطفال”، “Kindergarten”.
مبتكر رياض الأطفال
ما إن يبلغ الطفل عامه الثالث وأحيانًا منذ أيام عمره الأولى، تلك السن التأهيلية في مرحلة ما قبل سن المدرسة، حتى تبدأ الأم رحلة البحث عن مكان يرعى طفلها خلال ساعات الصباح، ويوفر له الاهتمام والتعليم والرعاية والمرح.
ربما ندين جميعًا بالفضل لقائمة طويلة من الفلاسفة وعلماء التربية والمفكرين. كان أبرزهم هذا الرائد في مجال التربية وصاحب فكرة إنشاء أول روضة أطفال العبقري “فريدريك فروبل Friedrich Wilhelm August Fröbel”.
ترك فريدريك فروبل تراثًا كبيرًا من الأبحاث والمراجع في مجال تربية وتعليم الأطفال، ولعل خطواته وابتكاراته التي قام بها في هذا المجال كانت اللبنة الأولى في صرح عظيم مستمر حتى الآن في النمو والتطور.
عبقرية “فروبل” النادرة في عمله معلمًا ومدرسًا ومربيًا، لا يمكن أن تنفصل بحال عن شخصيته، ونشأته وطفولته.
فريدريك فروبل هو مثال نقي كامل الوضوح على أن سنوات الطفولة المبكرة قد تكون بشكل كبير هي العامل الأهم في تكوين شخصية الإنسان سواء سلبًا أو إيجابًا.
كان من حسن حظ البشرية أن أثرت تلك السنوات المبكرة في حياته التي قاسى فيها كثيرًا من الحرمان على كافة المستويات، في مسيرته المهنية بشكل إيجابي.
فأراد أن يمنح الأطفال ما حُرم هو منه من رعاية واهتمام وتعليم جيد.
اقرأ أيضًا
في مديح ديوي
طفولة فريدريك فروبل المأساوية
“لقد تُركت تحت رعاية الخدم، ولكن هؤلاء انتهزوا فرصة انهماك أبي في عمله فأهملوا أمري وتركوني، أما أبي فهو أب بالاسم فقط وأعترف بأنني حييت بعيدًا عنه وهو غريب عني فكنت في الواقع يتيمًا لا أم لي ولا أب”
فروبل في إحدى رسائله
ولد “فريدريك فروبل Friedrich Wilhelm August Fröbel” عام 1782 بمقاطعة بالريف الألماني. فقد والدته باكرًا قبل أن يتم عامه الأول.
كانت تلك الصدمة الأولى التي شهدها وما ترتب عليها من معاناة.
فوالده لم يستطع التفرغ له ليرعاه بشكل صحيح، فتركه بين أيدي الخدم الذين أهملوا الاهتمام به، وقبل أن يبلغ عامه الخامس تزوج والده بسيدة كانت تعامله بلطف كبير في البداية ولكن عندما رُزقت بعد ذلك بأطفال غيره أهملته هي الأخرى وتركته لعبث إخوته الصغار.
دراسة فريدريك فروبل
لم يرسله والده ليتعلم حتى قارب عمره العاشرة، ووقتها تعلم القليل من التراتيل الإنجيلية والتعاليم الدينية.
عندما تجاوز العاشرة ذهب للعيش مع خاله الذي أودعه مدرسة ليلحق بما فاته من تعليم.
ولكن “فروبل” وجد صعوبة وتَعسرًا دراسيًا فسنوات الإهمال الطويلة التي عاناها، وعقم المناهج الدراسية لم تجعله يحصد أي نجاحات.
كان يردد أنهم يحفظون المناهج مثل الببغاوات ولا ترتبط المواد التي يدرسونها بما هو موجود حوله في الواقع.
بعد خمس سنوات من الدراسة عاد إلى أبيه الذي لم يساعده على دخول الجامعة مثل إخوته، فلجأ إلى العمل وخلال فترة عمله مساعدًا متخصصًا في مجال الغابات -فقد كان يعشق الطبيعة- أظهر تفوقًا كبيرًا في حساب المساحات والاهتمام بأنواع النباتات.
وبعد عامين من العمل عندما كان بالسابعة عشر من عمره لجأ إلى الجامعة لدراسة الرياضيات، وعلوم الطبيعة، والجغرافيا.
وعاد للعمل بعد ذلك بوظائف خاصة بالغابات، وذلك حتى عام 1805م.
في هذا العام توفر لديه بعض المال، ولأن حب التعلم هو شغفه قرر أن يدرس الهندسة المعمارية في مدرسة Musterschule في فرانكفورت.
لكنه بدلًا من تلك الدراسة يجد من يقنعه بالالتحاق بسلك التعليم ويهيئ له وظيفة مدرس في تلك المدرسة، يقول “فروبل” لأخيه في إحدى رسائله بعد أيام من بدء عمله الجديد:
“إني لأعجب حقًا كم تروق لي وجباتي الجديدة. وقد بدا لي منذ الدرس الأول أني لم أفعل من قبل شيئًا غير هذا، وأني خلقت لهذا العمل. ولا أستطيع أن أتصور أنني قد فكرت من قبل في اختيار عمل آخر، ومع ذلك أعترف بأن التفكير في أن أكون معلمًا لم يراودني قط من قبل “
فيَدرس في البداية أسس وطرق بستالوتزي Pestalozzi ويتعرف على أسلوبه ومنهجه في التعليم والتربية؛ فيقرر أن يتتلمذ على يديه مباشرة، ويسافر إلى سويسرا، ليدرس في معهد “بستالوتزي”.
كان لأسلوب بستالوتزي القائم على الملاحظة والمراقبة وتسجيل النتائج أثر كبير على أسلوب فروبل الذي سعى إلى الاستفادة وتطوير هذا المنهج مما جعله يتفوق على أقرانه من المعلمين.
البحث عن كنوز التربية
عند عودته إلى بلدته يقرر أن يولي اهتمامًا خاصًا بالأطفال الصغار في سن ما قبل التعليم المدرسي، ويرسي بدايات أسسه الخاصة في التربية.
فيرسخ فكرة أن اندماج الطفل الحر بالطبيعة ينشأ عنه تطور في مهارات الطفل العلمية والعملية.
يُنشأ فروبل أول مدارسه أو معهد تربوي خاص بتربية الأطفال الصغار في قرية تدعى كيلهو Kailhau عام 1817م. ويتفرغ للعمل التربوي ويؤلف كتابه الأشهر “تربية الإنسان”، الذي تناول مفهومي وحدة الذات والنشاط الذاتي self – activity لدى فروبل.
يرى فروبل أن الرغبات التي توحد وتدمج الإنسان مع الطبيعة والبيئة من حوله تظهر منذ البدايات في سنوات طفولته الأولى. والنشاط هو الذي تسيطر عليه تلك الدوافع النابعة من رغبات الفرد وميوله.
“الـعمل التـربوي لديه هـو قيادة الطـفـل وتوجيـهه نـحـو التطور الكامل الذي يشمل عقله ووجدانه وروحـه وذلك بـواسطـة النشـاط الـذاتـي الذي ينـبع من الدوافع والـرغبات والـميول الداخلية لـلطفل، لـذلك فقد كان يـلح عـلـى ضـرورة تكامل الجوانب الـثلاثة كهدف للتربية. “
فعندما يندمج الطفل بكل قواه وبتلقائية كاملة في وحدة مع الحياة حوله فإنه يحقق النمو، وهذا هو هدف التربية.
أول روضة أطفال
كان ” فروبل” يبحث عن جنة للأطفال يجد فيها الطفل الصغير متعة للتعلم وممارسة هواياتهم واكتشاف رغباتهم.
كان يرى أن الأطفال مثل النبتة والمربي هو البستاني الذي يجب أن يرعى النبتة بحرص واهتمام.
اعتمدت أساليبه في التربية على الموسيقا، والألعاب، ودمج الطفل مع الطبيعة من حوله من حقول وغابات.
وأن يترك الطفل ليستخدم يديه وحواسه بحرية لاكتشاف العالم من حوله.
فكانت روضة الأطفال عام 1838م مشروعه العملاق الذي نرى أثره ونشهده حتى الآن. ولهذا يعد فروبل أول من أسس روضة أطفال بمعناها ومفهومها العلمي.
ربما لم يحقق فروبل نجاحًا على المستوى الشخصي من خلال شغفه التربوي والعلمي. غير أن أفكاره العلمية في مجال تربية الأطفال كانت هائلة، وغيرت وجه التعليم والتربية على مستوى العالم كله.
مـبادئ فريدريك فروبل في التدريس:
– مبدأ الحرية الموجهة والاختيار بدلًا من القسر.
– مبدأ المحاكاة والتقليد لرغبات الكبار.
– مبدأ التعليم عن طريق الخبرة والعمل والحياة النشطة.
– مبدأ التطبيق العملي لكل معرفة يتحصل عليها الأطفال.
– مبدأ الاعتماد على الميول والدوافع الداخلية للطفل في تشجيع الطفل على التعلم بدلًا من اللجوء إلى الحوافز والرغبات الخارجية.
– مبدأ الإعلاء من شأن اللعب، واستخدام اللعب والنشاط والمشاهدة في دراسة التاريخ والجغرافية والبيئة بدلًا عن الكتب والدراسة النظرية.
– مبدأ الوحدة والتكامل في الخبرة والنشاط التربوي.
هدايا فروبل
تعتبر هدايا فروبل Fröbelgaben أو Froebel Gifts من أبرز الابتكارات التي قام بها فروبل في مجال التربية للأطفال الصغار، وهي عبارة عن مجموعة كبيرة من الأدوات والأشكال الهندسية تسهم في العملية التعليمية، وتنقسم تلك الهدايا إلى عدة مجموعات تتطور تعقيداتها بتطور نمو وعمر الطفل.
كان من رأي فروبل أن ما يحقق قانون الوحدة الذي أسسه هو إدراك الطفل للواقع المادي العضوي من حوله والذي من خلال فلسفته توقع أن الطفل يراه على هيئة رموز.
ما فسره هو بعد ذلك على هيئة أشكال مختلفة هندسية كهدايا فروبل التي تسهل عملية التواصل بين الطفل والبالغين وبين الطفل ومحيطه.
جنة للأطفال
قضى فروبل بقية حياته يلقى خطابات ومحاضرات عن تربية الأطفال، ويجمع التبرعات لإنشاء ودعم رياض الأطفال ومنشآت التعليم ولتطوير منظومة التنشئة والمفاهيم التربوية.
كان حلم فروبل أن يرى الأطفال سعداء أن يعطيهم ما حرم منه هو وظل يبحث عنه طوال حياته.
ربما عطفت عليه الأقدار فكان يرى طفولته المفقودة فى وجوه من تربوا على يديه في حدائقه ومعاهده كثمرة للمجهود الذي أعطاه لهم.
في عام 1852م بعد أن حقق جزءًا مما حلم به وشغفه طوال سنوات عمره رحل من حول قاعات التلقين. وما زالَتْ تدرس أساليبه حتى الآن بجميع أنحاء العالم.
المصادر