حياة تعليمية قاسية عاشها علي مبارك جعلت منه “أبو التعليم”
“وكيف لا أرغب في انتهاز فرصة تعليم أبناء الوطن وبث فوائد العلوم؟ فقد كنا مبتدئين نتعلم الهجاء حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه”
لم يكن غريبًا على علي مبارك وهو أحد أفراد عائلة محمد علي التي لا يخفى دورها في النهضة التعليمية، أن يكون هذا رده حينما قرر العمل كمُدرّس على الرغم من أن مهاراته وقدراته تمكنه من القيام بما هو أكبر من ذلك، أو بالحصول على مكانة أفضل.
يكتب لعلي مبارك دوره البارز في نشر التعليم وكثرة إنشاء المدارس في مصر، وهو ما وراء تسميته بـ “أبو التعليم”، ورغم ذلك لم يحظى بالقدر الكافي من الشهرة كغيره من الشخصيات المؤثرة في مجال التعليم، حتى بين أبناء الوسط الأدبي الذي لطالما كتب فيه ولأجله، فله العديد من المؤلفات الأدبية والترجمات تجاوزت الألفي كتاب، غير أنه كان أبرز من أقاموا صرحًا للتعليم العالي في مصر.
“ولهذا التزمت في كل ما تقلدت من الأعمال، وجميع ما تقلبت فيه من الأحوال، أن أخدم وطني بكل ما نالته يدي وبلغه إمكاني، مما أراه يعود عليه بالفائدة والنفع، قل أو جل، كالسعي في استكثار المكاتب والمدارس.. وتعميم التربية والتعليم.. ونشر الكتب المفيدة، إما بالاشتغال بتأليفها بنفسي أو بالحث والتحريض عليها لمن أرى فيه أهلية القيام بها!..”
علي مبارك
وفي إحدى كتاباته تحدث مبارك عن امتنانه للوطن الذي أنعم عليه بالخيرات والثمار في مراحل طفولته وكبره، وذكر أن عرفانه للوطن لم يمنعه من بذل قدر المستطاع من الجهد في خدمة الوطن سواء من خلال التعليم، ناهيك عن مجهوداته في مجال الهندسة، فكان من أعظم المهندسين العرب في هذا العصر وقد خدم في هذا المجال بكتاباته عن تخطيط المدن وعماراتها.
كما ينسب إليه إنشاء الاستحكامات الحربية وتنظيم أول تصميم لمحافظة القاهرة ومدن مصر في العصر الحديث، إضافةً إلى كونه أبرز مهندسي الحرب الـ 73 الذين درسوا فنون الحرب في أوروبا في عهد محمد علي، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، حيث خطط للهندسة الزراعية والنيل، وبشر بأهمية الدخول في عصر البُخار والميكنة، وكتب سطورًا وصفحات في هذه المجالات.
في الصورة خريطة للقاهرة وضواحيها قديمًا، مرفقة في السيرة الذاتية لعلي مبارك
معاناة علي مبارك مع التعليم
ينتمي علي مبارك إلى عائلة أغلبها من الشيوخ، وبالفعل أطلق عليهم: “عائلة الشيوخ”، فقد بدأ الأمر مع جده إبراهيم الروجي حين كان فقيهًا من فقهاء الريف، وتولى منصب إمام وخطيب مسجد قرية برنبال، والتي استقر بها بعد عدة تنقلات بين القرى خلال حالة التقشف التي طالت الفلاحين نتيجة لحكم المماليك والعثمانيين حينها، ثم تبعه في هذا النهج ابنه سليمان ومن بعده حفيده مبارك.
على الأغلب فإن الوضع السئ الذي تعرض له علي مبارك خلال تلقي العلم في صغره هو الذي جعله منحازًا إلى صالح تطوير التعليم في مصر، فقد ذكر في المجلد الأول من أعماله الكاملة عن سوء معاملة الشيخ أحمد أبو خضر الذي كان يعلّمه ويحفّظه القرآن ببلدة الكردي، بلدة قريبة من برنبال، بعدما تجاوز الستة أعوام من عمره، ما دعاه إلى تركه بعد عامين، بعدما كان يقيم لدى الشيخ طيلة الأسبوع ما عدا يوم الجمعة كان يزور أسرته فيه.
“إني، إلى الآن، راسخ في ذهني ما كان يرتبه على مؤدبي في صغري: أن آتي له بشيء من المنزل، فكنت أتحايل تحايل اللصوص حتى اختلسه وآتيه به! وإن امتنعت أو أتيت بأقل مما طلب توعدني أو ضربني! وكان أحيانًا يعاملنا معاملة الخدم، فكان منا من يخدم زوجته فيملأ لها الزير ويكنس البيت وينفض الحصير، ومنا من يخدمه، فهذا يهيئ له غذاءه ويفليه!”
علي مبارك الأعمال الكاملة – المجلد الأول
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فعندما ترك الصبي الشيخ أبو خضر وهدد بالهرب في حال أُجبر على العودة من جديد، فتولى والده أمر تعليمه لكنه لم يستطع العناية به طوال الوقت لكثرة مشاغله، ولما حاول تدارك الأمر رفض علي مبارك أن يستمر في تعلم الفقه، وأعلن عن رغبته في أن يصبح كاتبًا، ومن هنا بدأت رحلة جديدة سيئة في التعليم على يد صديق لوالده .
لم يمر الكثير من الوقت حتى نال علي مبارك رضا والده عن قراره، وأرسله إلى صديق يشغل وظيفة كاتب قسم، ويقول علي مبارك في إحدى كتاباته أنه بالرغم من كون معلمه الجديد حسن المظهر وجميل الخط، إلا أن تعدد زوجاته وكثرة أبنائه جعله فقيرًا، ولم تكن الأموال التي يرسلها والد علي مبارك إليه تكفيه، وفي كثير من الأحيان كان الصبي ينام جائعًا، غير أنه لم يكن يستفيد شيئًا منه عند الذهاب معه إلى العمل، بينما كان يعلمه أمام النساء في المنزل.
فترة عاشها علي مبارك يتعلم أمام النساء في المنزل وعند الخروج مع معلمة لا يستفيد شيئًا، انتهت بتلقيه معاملة سيئة من معلمة، وصلت إلى ضربه، ما دفعه إلى الهرب بعدما حكى إلى والده ولم يستمع إلى شكواه، وبدأ ينتقل من هنا إلى هنا وعانى من مرض الكوليرا في رحلته حتى انتهى به المطاف بذهابه إلى منزل أخ له، غير شقيق، ثم أقنعه أحد أخوته بالعودة إلى منزل أبيه الذي لم يكف عن البحث عنه.
الكاتب والدكتور محمد عمارة يتحدث عن الفترة التي تلت عودة علي مبارك إلى والده بعد هروبه
بعدما عاد علي مبارك إلى والده أرسله إلى صديق ليتعلم حرفته وهي “كتابة المساحة”، وبدأ في تحصيل القروش من عمله، لكنه لم يدم حيث أفشى الصبي سر تلقي صديق والده للرشاوى من الفلاحين وعاد إلى منزله مرة أخرى، وتكررت رحلته مع الكاتب مرة أخرى لكنها مع آخرين غيره إلى أن التحق بالمهندسخانة .
مجهودات المؤرخ والمهندس علي مبارك في مجال التعليم
وفي عام 1849 تم اختياره للسفر في بعثة إلى فرنسا مع مجموعة من الطلاب لنباهته، وكانت البعثة لهذا العام تضم عددًا من أفراد أسرة محمد علي، وبعد سنوات عُرض عليه النظر في الميزانية المطلوبة لتطوير المدارس الملكية والرصدخانة، تحديدًا عام 1866، فقام بتنظيم الأمر واقترح جعل كل المدارس تندرج تحت إدارة ناظر واحد، وأوصى بإرسال مجموعة من الطلاب إلى فرنسا لتعلم قواعد الرصدخانة ليتم إعادة افتتاح الرصدخانة بعد عودتهم.
أعجب عباس باشا بأفكار علي مبارك وجرأته وثقته في عرضها فمنحه رتبة أميرلاي وجعله ناظرًا للمدارس، وخلال فترة نظارته شارك في تأليف كتب المدارس، وجعل بها مطبعة حروف ومطبعة حجر طبع فيها 60 ألف نسخة من كتب متنوعة، وكل ذلك لم يشغله في الاهتمام بالطلاب ومأكلهم وملبسهم وتعليمهم، فكان يهتم بنفسه بتعليم الطالب كيف يأكل ويشرب ويلبس.
ليس ذلك وحسب، بل كان يراقب كل العاملين في المدارس لتذليل العقبات أمام الطلاب وتوفير بيئة تعليمية صحية، وألف كتابًا في العمارة ظل متبعًا في المدارس لفترة طويلة، ونتج عن كل ذلك طلاب متميزين حصلوا على الإشادة والثناء وتقلدوا الوظائف المختلفة ومنهم من أتقن الفرنسية كأهل بلدها ونالت إدارة علي مبارك الثناء من الجميع.
وعند تولي سعيد باشا ولاية مصر بدأت الافتراءات والوشايات تحاك ضد علي مبارك ففضّل الابتعاد عن النظارة، وتم إرساله مع الجيش المصري للمشاركة في حروب الدولة العثمانية، ويوم رحيله ودعه طلابه وبكوا من أجله.
وبعد سنوات عاد إلى مصر وطلب منه ترشيح معلمين لتعليم الضباط المصريين القراءة والكتابة والحساب، فعرض نفسه وكان في ذلك مفاجأة للمسؤولين ظنًا منهم أن وظيفة المعلم أصبحت أقل شأنًا منه، وهنا قال علي مبارك جملته:
“كيف لا أرغب انتهاز فرصة تعليم أبناء الوطن وبث فوائد العلوم؟ فقد كنا مبتدئين نتعلم الهجاء، ثم وصلنا إلى ما وصلنا إليه”.
وفي سنة 1884 أصبح وكيلًا لديوان المدارس تحت رئاسة شريف باشا، ثم أصبح المسؤول الأول عن ديوان المدارس في العالم التالي، وفي هذه الفترة قام بنقل المدارس من العباسية إلى القاهرة لتقليل المشقة على الطلاب وأهلهم، ثم بدأ في تنظيم المكاتب الأهلية في المدن والأرياف التي كانت تهتم فقط بتعليم القرآن الكريم وجعلها أكثر توسعًا من ذلك.
وقام بتأسيس مدارس مركزية في بعض المدن مثل أسيوط والمنيا وبنها، وكذلك زيادة المدارس أو ما يعرف وقتها بالمكاتب، في القاهرة والإسكندرية والتي أقبل عليها الأهالي لإلحاق أبنائهم بها، كما حرص على توفير المطابع داخل المدارس لتوفير أدوات التعليم المختلفة.
مراجع:
كتاب “علي مبارك.. مؤرخ ومهندس العمران”، للدكتور محمد عمارة
كتاب “حياتي”، السيرة الذاتية لعلي مبارك