أنا أم عاملة… من المنزل
مرَرْتُ بفترة عصيبة –ربما تكون اكتئابَ ما بعدَ الولادة- لا يمكنني القول بأنني اجتزْتُها، ولكنني اقتربت من ذلك بمساعدة زوجي، وباليد الصغيرة التي تُرَبِّتُ على كتفي يوميًّا والابتسامة الصغيرة ونظرة الرِّضَا.
ابنتي عمرها عام وسبعة أشهر وعشرة أيام، يمكني أن أجزم أنني خلال هذه الفترة لم أتركْها أكثرَ من 5 ساعات، فأطولُ مدةٍ غابت عني فيها كانت ساعةً واحدة، وكانت برفقة أبيها.
أشكر ربي يوميًّا أنني أمٌ عاملة تعمل من المنزل؛ فلا أضطر لترك ابنتي مع أحد، إذا تعلق الأمر بـ “ليلى” فلا أثق بكائنٍ مَنْ كان؛ فلن يعاملها أو يتفهمها أحد مثلي.
أتذكر يوم مولدها جيدًا، أتذكر وضعها على يدي، ونظرتي الأولى لها، أتذكر رغبتي في رؤيتها، أتذكر الحيرة بين اسمي “ليلى” و”فيروز” فأي الاسمين ستحبهما أكثر؟ وفي النهاية كانت “ليلى”.
كنتُ حريصةً على ألا أرتكب جريمة الاسم الغريب أو مجهول الهوية في حق ابنتي، فلن أختار لابنتي اسم لتعريفه نحتاج الرجوع إلى المعجم الوجيز.
أنا أمٌّ عاملة، لا تنام ما يزيد عن 6 ساعات –أغلب الوقت أقل من ذلك- تستيقظ لتعمل وابنتها نائمة؛ فلا يشغلني العمل عن ابنتي أغلب الوقت.
ليلى شمس حياتي وكل ما يليها كواكب!
أخبرتني قريبة يوم أنني أخشي فطام ابنتي؛ لأن حينها ستتمكن ليلى من الابتعاد عني، ولا تشعر بعدم وجودي، ابتسمت يومها وقلت “أيوة هو كده” ولكن بداخلي صوت يؤكد، أني لن أتمكن يومًا من ترك ابنتي، وبالتأكيد هي ستبادلني الشعور، لم أبخل عليها منذ مولدها، وبالتأكيد هي لن تكون بخيلة معي.
فكرتُ، وما زالت تراودني فكرة أن تذهب ليلى إلى “حضانة” ولكنني لم أجد حضانة بالمواصفات المطلوبة حتى الآن، لا أريد شيئًا تقليديًّا، أريد لها مكانًا أخضرَ، تلعبُ فيه، تتركها المربية فيه على راحتها، تتابعها من بعيد، وهي تلهو، وتلعب مع الأطفال، أريد لِيَدِها أن تلامس الطبيعة يوميًّا، أريدها أن تتعرف جيدًا على الهواء والشمس، لا أريدها أن تُحْتَجَزَ بين أربعة جدران، لتتعلم A apple أو B book.
لا أريد من يشوه لغتها وتفكيرها وهويتها، لا أريد كل حديث الحضانات عن الرعاية التي توفرها، أو المهارات التي تتعلمها، ولا كل أساليب التربية المتبعة التي أصبحت تجارة ليس أكثر.
لن أقول لابنتي يومًا ارمي هذه الورقة في الـ BASKET
ولن أخبرها أنها NAUGHTY
ابنتي قطعة من روحي لن أتركها لأحد يعبث بعقلها ومفرداتها، لن أسمح لنفسي يومًا أن أعلمها لغة أو رياضة لأجلس وأتفاخر بـ “شطارتها” وسط النساء، ابنتي لن تكن يومًا سِلْعَة في سوق التفاخر.
منذ ولادة ليلى مقدار الأشخاص يحدد عندي بشكل معاملتهم لأبنائهم، لا أثق في شخص يهمل ابنه، فأي فعل جيد منه بالنسبة لي ليس إلا محض نفاق، فمن لا يهتم بقطعة منه لن يهتم بمن حوله.
أنا أم عاملة، أشكر ربي أني أعمل مع إنسانة، أول تعريفها لنفسها “أم لخمسة أولاد”.
قد يظن البعض أنني أَحُوطُ ابنتي فلا تتحرك بدوني، ولا تهمس إلا في أذني، ربما عليكم الاستماع إلى “باي” ومشاهدة تلويحه اليد.
ابنتي اجتماعية تحب الجميع أحيانًا، تخجل عندما تشعر أن هناك نظرات تتبعها، ولكن هذا لا يَطُول، ابنتي لديها شخصية أقوى من شخصية لطفل قد تجاوزَ الخامسة.
ابنتي تشعر، وتبكي، وتغضب، تركتها لتختبر كل المشاعر، لكن وهي بداخل حضني، لم تحتَجْنِي يومًا إلا وجدتني.
أنا أم عاملة أفكر أحيانًا في ترك العمل، والتفرغ التام لابنتي، ولكن بسبب ابنتي أيضًا أتراجع عن هذه الفكرة؛ فأنا أعمل لأجلها؛ لمستقبل أفضل لها.
“خلي بالك هتنزل السلم”
تكررت هذه الجملة على مسامعي كثيرًا من أشخاص اعتادوا ملاحقة أطفالهم، لكن ليلى صادقت سلالم تركيا مع إتمام عامها الأول، وبالتالي بعد ما يزيد عن سبعة أشهر لن أكون خائفة وهي تقف عند سلم.
ربما أكون ابتعدت عن موضوع قضية الشهر، لكن ما أريد قوله أن الأبناء أغلى ما بالكون، فأن يتساوى غيابك مع وجودك لدى الطفل وأن لا يبكى عند نزولك إلا لرغبته في النزول، لا يعني إلا أنك شخص فاشل، حتى وإن ملكت الدنيا، وأصبحت في أعلى المناصب.
ترديد ابنك لكلمات لا يفهم معناها ما هو إلا غباء منك، الحديث مع ابنك بكلمة من اللغة العربية وكلمة من اللغة الإنجليزية لا يعني إلا أنك جاهل.
هذه أشياء ليست مدعاة للتفاخر، بل هو بلاء ينبغي أن تستتر منه.
لست كاملةً، ولا أدعي أنني أقدم لابنتي كل شيء، ولا أنني أفضل أمٍّ، يوميًا أجلد نفسي على الصرخة التي خرجت مني، على تقصيري في حق ابنتي، على كتب التربية التي لم أتمكن من قراءتها، وعلى جميع المخططات التي فشلت… ولكنني أعلم أنني أبذل ما بوسعي، ولا أبخل عليها.
ما أنا أكيده منه أنني قدمت لـ “ليلى” روحي وثقتي بها.
أعتذر منك ابنتي على تقصيري معك بسبب العمل، وأعدك أنني لن أتركك لأحد لا يفهم نظرتك واحتياجاتك.
أعدك بأنني سأستمر من الاعتذار منك عند إعطائك الدواء دون رغبتك.
أنا أم عاملة لن يوقفني عملي يومًا عن الاهتمام بابنتي، ولن أسمح لعملى أن يأخذ حق ابنتي.