أيهما أهدى قدوة لأطفالها: الأم العاملة أم الأم الموظّفة؟
الأم العاملة Working Mother أو الوالد العامل بصفة عامة Working Parent، وفقًا لتعريف قاموس كامبريدج: A parent who has a job and takes care of his or her children، أي الوالد الذي له وظيفة ويعتني بأطفاله في ذات الوقت.
ما نريد التركيز عليه في التعريف استعمال كلمة Job التي تدل على الوظيفية، في مقابل Work التي دلالتها أعم عن العمل عامة. فالأم العاملة إذن المقصود بها في هذا السياق هو الأم الموظّفة، التي تجمع بين الأمومة والوظيفة.
والمميزات التي يعرضها المؤيدون للجمع بين الأمومة والوظيفية، لمطالع مواقع “اللايف ستايل” و”لايف هاك” وأشباهها من المواقع المجتمعية، يجدها تدندن حول 4 مميزات رئيسية:
- الاستقلال المالي.
- نموذج ملهم لأطفالها الذين ينشؤون أكثر استقلالية وأقل اتكالية عليها في إدارة أمورهم.
- تحصيل احترام زوجها ومجتمعها كونها امرأة حرّة قوية ذات مهنة، ويندرج تحتها الحاجة عامة لمختلف صور تحقيق الذات.
- النجاة من براثن الملل المنزلي ورتابة الروتين الأسري.
وبالتأمل قليلًا في ذات تلك المميزات تجد أنها تتأتى من كذا سبيل آخر، وليست الوظيفة هي ما تخلقها، وإلا فآلاف الموظفين حول العالم لا يحققون مما ذكر شيئًا، سواء كان لهم أولاد أم لا.
الاستقلال المالي
له وجها نظر عندنا: أولًا أن شرع الله في الأسرة غير الشرع الذي تجري عليه تلك الأمم. فاستقلال الزوجة ماليًا عن زوجها، ومناصفته في عبء النفقات المادّية، هذه كلها إشكالات مختصة بهم وبنظام حياتهم الاجتماعي وشرعتهم في المعاملات، فاستيرادها عندنا يخلق لنا إشكالات ليست منا في شيء.
ومن جهة أخرى، ليس عندنا ما يمنع أن يكون للمرأة ذمة مالية مستقلة، لا ينتقص من قدرها ألا يكون لها، ولا يتوجب عليها تحصيلها، فالمرأة في كل أطوارها منذ المهد إلى اللحد مسؤوليتها المالية تقع شرعًا على عاتق وليها من الرجال بحسب وضعها ، إلا حيث جاء الشرع بخلاف ذلك في مواضعه.
أما إذا شاءت أن تكون ذات مال، فذلك ينفعها لا ريب في صور شتى، ولا حرج في إقدامها على الكسب ما راعت حدود الشارع في كافة أمرها. ولا قالب معين لكسب المال في عالم صار كل شيء فيه فعليًا حرفة يمكن التكسب منها، وكثير منها صار يدار عبر المنازل أو الجهات الحرة.
النموذج الملهم للطفل
هو نموذج الأم “العاملة” لا “الموظّفة”، أي التي وقتها ونفسها دائمًا عامرة بأشغال نافعة، عِوَضًا عن بطالة أوقات الفراغ وطول ساعات الدردشة الهاتفية والمجالس التلفازية، وتلك مشاهد مؤذية تربويًا للطفل النابت على محاكاة والديه في عاداتهما، وتلك مشاهد تصدر من ربّات الوظائف كما ربّات البيوت.
إذ الشأن في نفس المرأة قبل أن يكون في بيئتها. التي نشأت على خواء النفس وعدم المبادرة لعمران أوقاتها والحرص على تعلم الجديد واكتساب المهارات، ستظل تلك عادتها حتى في وظيفتها، تجدها لن تزيد فيها على ما يسمّى بالإنجليزية فئة “Cog in a Machine” أي ترسًا في آلة.
بل إن القالب الوظيفي يخلق لها تحدّيات وإشكالات هي أبعد الناس عن الحاجة إليها في نفع نفسها أو أولادها، من ضغط وقتها وإلزام نفسها بما قد لا يلزم حقيقة ولن يقيم ميزان الكون ناهيك عن بيتها! بل إن التوجه العالمي اليوم يتجه بمؤشر ملحوظ للاستقلال والعمل الحر الذي تكون فيه مالك زمام نفسك Self-Bossed.
وتنشئة الطفل على الاستقلالية هو نهج تربوي في الحقيقة، وليس نتيجة اضطرارية لغياب الأم عن المنزل وخفوت أثر محوريتها فيه كمركز البوصلة. ولا تستوي أبدًا نفسية أطفال ظاهريًا كلهم مستقلون، وداخليًا نبع استقلالهم من جهتين منفكتين، ولا حتى تتساوى صلاتهم بأمهاتهم وحقيقة ارتباطهم بهنّ، يما يفوق مجرد كونها “أيقونة” يفخرون بانتسابهم لها!
الإشكال إذن في النهج التربوي وحضور الأم بفاعلية كمربٍّ (وهو ما لا يتطلب تواجدها الفيزيائي الدائم بالمناسبة)، لا تواجدها المستمر كخدمة منزلية ولا تواجدها المتقطع كمشرف إداري.
ومهما قالت الأم إنها “توفر” لأسرتها من نفسها وقتًا، سواء في الأمسيات أو أيام الإجازات، فالأصل هو الإنفاق من نفسها عليهم، وما يفيض توفره للخارج لا العكس. ولا يمكن عقلًا أن يستوي في الأثر من تفرّغ نفسها لمن هم قطعة من نفسها، ومن تعطيهم فضول أوقاتها، ثم تشكو بحلول سنيّ المراهقة لأبنائها أنهم جزر منعزلة لا تعرف كيف تصل لهم، وأنهم يتمردون عليها أو لا يستمعون لها.
ثم أي “عطاء” خارجيّ ذلك الذي يجعل أمًا تعهد بالحضانة لأطفالها في أخصب سنين عمرهم وأحوجها للاهتمام وأسرعها للتأثر؟ العطاء الحق هو مراعاة أولويات المستحقين ولو خالف هوى المعطي. فالأصل أن إصلاح المرأة داخلي من الجذور، وإذا فشلت أو قصّرت في هذا، لن يغني تلميع الظواهر عن انحراف البواطن شيئًا، خاصة وأن من شب على شيء شاب عليه.
الواحدة التي تبني من الداخل هي كألف يبنون في الخارج. فما بالها تجتهد كل الجهد للتغيير فيمن شب على ما شاب عليه، وتزهد فيمن بين يديها وهبهم الله لها بذورًا تغرسها من جذورها على ما تحب. سبحان الله! تستعذب الماء من ماعون شرب منه غيرك، أما الماعون الصافي فهو ملح أُجاج؟!
وكم مضى علينا من القرون ونحن نتبع نهج البدء من الخارج؟ فماذا كانت ثمرته؟ أعتقد أن ما بالخارج كفيل ببيان الجواب. لذلك استثناءات بالتأكيد لمن وفقها الله وسددها فأخذت الأمر بحقه، لكن الواقع كما أسلفت خير شاهد أن القاعدة هي ما سبق.
تحصيل الاحترام وتحقيق الذات
فذلك أردأ ربط وقع بين كون الأم موظّفة وكون وظيفتها تستجلب لها الاحترام! احترام الزوج لزوجته، والأبناء لأمهم، والمجتمع للمرأة، نابع في الأساس من احترام المرأة لنفسها، بتكريمها لذاتها كنفس خلقها الله فسواها واستأمنها واستودعها هذا الوجود لتعمل عملًا تلقاه عليه وتحاسب به، فهي دائمة الحرص على عمران نفسها ووقتها وبذل جهدها في أي سياق يوقفها الله فيه.
هذه هي حقيقة مفهوم تحقيق الذات، أن تقفي على ذاتك وتدركي مقاصد وجودها ومناط حسابها، وماهيتها واحتياجاتها ومكامن النفع بها، لا الجري وراء القوالب الصمّاء والمسارات المعدّة سلفًا لأنها السائد الجاهز، وإن كانت ضيقة خانقة كعلب التونة!
هذا الفهم الناضج للذات والتعامل الجاد مع مسؤولة عمران النفس يبدأ منذ سن التكليف، إن لم يكن مما يغرس قبله. فمن تهمله طوال سنوات عمرها وهي لا تتحمل إلا مسؤولية نفسها، لن تنقلب موازينها فجأة لتصير قادرة على تحمل أمر نفسها وغيرها معها.
ومن هنا تبدأ دوامة لوم من حولها لتعطيلها عن تحقيق ذات لم تكن محل عنايتها من البداية، وأيسر ما يكون أن نعيش دور الضحية بإلقاء اللوم على كل أحد وكل شيء خارج نفوسنا، ونخلط بين القيام بحق الآخرين علينا وتقصيرنا في حق نفوسنا، وليس بين الجانبين تلازم لمن فقه، وكان جادًا في أخذ عمره بقوة، وتحمّل مسؤوليته عن نفسه، والقيام بواجب وجوده.
ذلك وجذور الهضم المستمر في قضية المرأة، رغم ما وصلت إليه من مناصب وما غزت به العالم من إنجازات في شتى المجالات، يُنْبئ عنه الواقع بما نعايشه من محاولات إصلاحية مستميتة لمفاسد في شتى المجالات، بسبب إهمال الأم لِحَقّ نفسها منذ كانت ابنة، اتبعت ما رأت أمها عليه من الاقتصار في دورها الوجودي عامة وقيمتها الأمومية خاصة، على الخدمة والتنظيف وتلبية حاجات المعيشة لنفسها ومن حولها ممن تشتغل بهم، وربما تزيد بعد ذلك الانضمام لترس من التروس الوظيفية أو المجتمعية، دون أدنى التفات في كل ذلك لتهذيب نفسها وعمرانها الجاد روحًا وفكرًا وعلمًا وعملًا.
وبالتالي كيف يفيض إناء خاوٍ بما ليس فيه حين يحين دوره؟ هذا الصنف من النساء مقبور في نفسه أصلًا سواء عمل داخل المنزل أم خارجه، وسواء في وظيفة حكومية أو منصب دولي.
وبغير كثير من التنظير والفلسفة، نظرة مستبصرة على واقعنا، ترينا أن إخفاق الأمهات على الجبهة الداخلية في أنفسهن أولًا، هو ما جعلنا بحاجة لكل هذا الترميم خارجيًا: محاضرات في التنمية البشرية والتعامل الأسري ومهارات التواصل والتعبير عن الذات والكبت النفسي والتعلق القلبي والانعزالية والشعور بالغربة والوحدة والتشتت وفقدان الهوية والتفاهة والسطحية والجهل المشين المتفشي في أوساط الشباب – ذكورًا أم إناثًا – وهم زهرة المجتمع وقلبه .. فإذا كان نصف المجتمع عاجزًا عن إصلاح نفسه فكيف يَصلُح به النصف الثاني؟!
ولـ حافظ إبراهيم قصدية بديعة، اشتُهر منها بيت “الأم مدرسة إذا أعددتها ..” حتى ابتُذل وفقد ظلال أثره. في نفس القصيدة، يقول حافظ رحمه الله: “الأم روض إن تعهده بالحيا ** أورق أيما إيراق”. لو فقهت كل شابة هذا المعنى فحسب، لوجدت لنفسها من الشغل ما يكفيها حتى قيام الساعة! أن تكون “روضة” في نفسها روضة لمن حولها ، فتتعهد ذاتها بالإنماء والتهذيب والتعلم والتطوير هو مما تنفق فيه الأعمار ولا تكاد تكفي. خاصة وأن إعداد المرأة حقًا هو إعداد لجيل كامل وليس لفرد أو بضعة أفراد:
“الأم أستاذة الأساتذة الأولى”
الملل والرتابة
حدّث ولا حَرَج! إن الملل من لوازم الحياة لأنه من مادة الضعف الذي خلق منه الإنسان، ومن طبيعة هذه الدنيا المنافي للخلود، فلكل شيء إذا ما تم فيها نقصان، ولكل بداية فيها نهاية، ولكل جديد لذة لا بد تذوي مع الأيام، وانبهار يذهلك عمقه ليصدمك بعد ذلك خفوته.
فدفع الملل إنما يكون بالجهد الذاتي في شغل الإنسان لنفسه بالحق، وحرصه على دوام التحسين، وتفنّنه في التجديد في علمه وهيئته وبيئته وكل ما يتصل به ما استطاع. وفي تربويات اليوم من الأفكار والنشاطات ما يكفي لفتح مدارس بأكملها ناهيك عن تجديد روح منزل أو أسرة!
لكن الإشكال في شأن الأسرة بالذات هو الإصرار على اختزاله في صور موروثة من قوالب روتينية في إدارة المنزل: تحضير الطعام، إيقاظ الأطفال للمدرسة، صرف الأطفال للمدرسة، تحضير الغداء، استقبال الزوج والأولاد، القيلولة أو الواجب المنزلي، تحضير العشاء، تنييم الأولاد، السهر مع الزوج\الزوجة للكلام الروتيني أو الشجار الدوري، ثم النوم في همود للاستيقاظ بخمود لنفس دوامة اليوم التالي. وهكذا.
وهذه دائرة مغلقة ومغلّفة، وفي كثير منها مستوردة ومعلّبة، وعلى ضيق خناقها يتبعها الناس لأنها القالب الجاهز والأسهل (عدنا لعلب التونة!). ولا يتطلب الأمر إلا أهل بيت يقررون أخذ زمام حياتهم بأنفسهم، ويكفون عن إلزامها بقوالب عرفية ما أنزل الله بها من سلطان ولا إلزام، ويُقبلون بقوّة على حياة فتيّة، يختارون فيها ما يرتضون تحمل مسؤوليته وإنفاق العمر فيه، عوضًا عن الدوران في ساقية مسؤولية لا يشعرون بالمسؤولية عنها على الحقيقة ويستنزفون في ركابها على السواء!
في كلتا الحالين سيأخذ إعداد الجو الأسري وتهيئة سمت البيت جهدًا وكَبدًا، لكن كبدًا ترجوه وتحتسبه، خير وأعظم أجرًا وأثرًا وثمرًا من كبد أبتر، لا بركة فيه ولا أصالة، وما له بعد من قرار.
لازلنا بحاجة للمرأة الموظفّة!
هذا وقد يقول قائل إنه حتى لو استوفت المرأة دورها زوجة وأمًا على الجبهة الداخلية بالمفهوم الأصيل، لا زلنا بحاجة لمن تعمل في الخارج طبيبة ومهندسة وعالمة وأديبة ومعلّمة وكذا وكذا. الرد على هذا يكون بالنظر للواقع مرة أخرى: بالفعل لدينا الطبيبة والمهندسة والعالمة والمعلّمة والكاتبة والكذا والكذا، لكن هل لدينا قبل ذلك الروضة المورقة في نفسها حقًا؟
فلنُعد المرأة السويّة أولًا في نفسيّتها وخلقها وعلمها وأدبها، ولتورق الروضة بداية، ثم تمتد بفيء ظلالها بالغدو والآصال حيث يفتح الله عليها ويأذن لها. لكن أن توجد المعلمة المنطمسة شرعيًا (أيًا كان تخصصها)، والطبيبة البذيئة لسانيًا، والعالمة الجاهلة تربويًا، والمهندسة المتعبة نفسيًا .. ستظل الحلقة مفرغة كمن يسد فجوة لتفتح له آلاف غيرها.
وخروج المرأة لوظيفة ما كل يوم لا يعني بالضرورة أنها تتطور أو تتهذب! فقد يكون عملها مجرد روتين يومي يتكرر دون أي أثر حقيقي على جوانب نفسها . إن ما يزكي الأم حقًا كأم، بل والمرأة كفرد مخلوق مأمور مسؤول محاسب، هو حرصها على تعهد روحها وفكرها وآفاقها، وتحمل أمانة نَفْسِها وأنفاسها، بذكاء واعٍ وذوق انتقائي واستعلاء على السفاسف، لا بمجرد الغرق في الأشغال للغرق في الأشغال وتزيين صفحات التواصل بصور الشغل ومجالس السمر بأحاديث الشغل! فالتكنولوجيا اليوم قطعت عذر كل متحجج، ومواد العلم منثورة وبالمجان، وفي ساعات اليوم وأوقاته من الإهدار ما أصحابها به أدرى!
ليست البيتوتية إذن هي المقبرة، ولا الانطلاق هو الجنة، وإنما جناتنا ومقابرنا في دواخلنا نحن وأفهامنا نحن وتصوراتنا نحن ، عن أنفسنا بداية وإكرامها ، ووجودنا ومسؤولياته. فإما أن نتبع ما وجدنا عليه الناس من آثار وأفهام بغير تعقل ولا موازنة، أو ننشئ آثارنا الخاصة وموازيننا وقيمنا التي بها نحيا وعليها نبعث ونحاسب.
المرأة التي تكون روضة في نفسها بنور الله، تغدو أمًا أمّة لأطفالها بأمر الله.
وإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد!