الفشل… معلم ذو أخلاق
الدقة العالية التي عودني عليها مشرفي على رسالة الماجستير الصيني Luo غيرت كثيرًا من طريقة تعاملي مع كل شيء في الحياة، فأصبحت أربط كل أمور الحياة بالتفكير والتمحيص وتحليل المعطيات المتوافرة ومن ثم الخروج بالنتيجة، حتى الفشل غدا لي إيجابي جدًا بل معلمًا في كثير من الأحيان.
ما يؤلمني إننا لم نتعلم في زماننا إن الفشل قد يكون نتيجة!
للأسف كان أي فشل يعني لنا ذُلًا وخزيًا ورعبًا ممن حولنا، فمثلًا أن تحصل على علامة سيئة، تجعل منك إنسانًا ضعيفًا ينتظر كل أنواع الكلمات اللاذعة ونوع العقاب الذي ينتظرك.
أتذكر جيدًا في المدارس الأساسية كان بعض المعلمات يتلذذن بالوقوف أمام الصف وتوزيع أوراق الامتحانات والتصريح بالعلامات… كأن تقول فلانة ( صفر مكعب، ليش يا كسلانة؟ )، فتستلم المسكينة ورقتها وتعود مطرقة وجهها بالأرض وأصوات الضحكات تصدح في أذنيها.
وتقول المعلمة إلى أخرى مجتهدة ولكن لم يحالفها الحظ بأن تنال علامة كاملة ( مالك متراجعة…؟ ) أما صاحبة العلامات الكاملة على الدوام تتوج بكلمات وعبارات رنانة تخلق في قلوب الكثيرات الغيرة والحسد وربما الحقد وكذلك تقلل من الثقة بقدراتهن، لإنه مهما إجتهدن لن يصلن إلي الطالبة المبجلة صاحبة العلامات الكاملة.
ولكني لا أتذكر بتاتًا أنه تم أي نقاش عن الأسباب التي أدت إلى العلامات السيئة، هل الخلل من الطالبة؟ أم من المعلمة؟ أم من أسئلة الامتحان؟ والعمل على إصلاح الخلل أيًا كان بطريقة تربوية ذكية.
علمًا بأن أسلوب التصريح بالعلامات على الملأ أسلوب سيء جدًا وغير أخلاقي خصوصًا للأطفال وما قد يحدثه الإحراج في نفوسهم من مشاكل نفسية، حيث في المدارس الألمانية توزع أوراق أو دفاتر الامتحانات، بكل هدوء وكذلك الشهادات السنوية دون ذكر العلامات أو حتى أسماء المتميزين.
في مرة سألت إبني عن علامة صديقه في امتحان، فأجابني إنه لا يعرف ولماذا يجب عليه أن يعرف فهذا ليس من شأنه؟
أبهرتني هذه الأخلاق في حفط السر واحترام مشاعر الآخرين.
كذلك عندما كان إبني في الصف الأول ولمعرفتي إنه متميز سألت معلمته يومًا بأسلوب توارثناه من بلادنا حيث استغربت فيها سؤالي… هل إبني من الأوائل؟
أجابتني: إنه متميز لكن لا أستطيع أن أقول لك ما هو ترتيبه ولكنه من الأطفال المتميزين.
وهذا لم يتكرر مع معلمة واحدة بل مع عدة معلمات ومع صديقات في مدارس مختلفة، وعرفت إنها من أخلاقيات مهنة التعليم في ألمانيا.
لماذا الفشل نتيجة؟
لأن الفشل يخلق في داخلك تحديات عظيمة تنفث فيها غبار المحاولات السابقة لتبدأ أخرى بعزيمة وخطوات أقوى ومدروسة.
أتذكر في فشل أول تجربة لي خلال بحث الماجستير وجدني مشرفي أبكي بحرقة وبهدوء على مكتبي وعندما سألني إن كنت على ما يرام، إنفجر ضاحكًا وقال .. إذًا جهزي لنفسك مصنعًا من المناديل الورقية لباقي حياتك العلمية، فهذه إسمها تجربة وهي تتحمل النجاح والفشل، والحكمة أن نبحث في فشلها والفشل في النهاية نتيجة.
وأردف قائلًا ملخصًا فيه حصيلة سنوات الدكتوراة في عدة جمل وهي:
يجب أن أنظر إلى الوراء مستعيدة ما قمت به مع بعض الإضافات التي تضمن لي النجاح، وأكثر ما لفتني في عملية النظر إلى الوراء وخصوصًا في تجارب البحث العلمي هو عدم تغيير كل الخطوات دفعة واحدة وإنما خطوة تلو خطوة للوصول إلى نتيجة دقيقة.
تعرفت من خلال إعادة ما فشلت به من تجارب ليست على المستوى العملي فحسب وإنما الحياة العملية، إنها تقوي الثقة بالنفس حتى الوصول إلى نتيجة مرضية، وكذلك تولد ملكة الإبتكار لتجعل من العمل متميزًا.
حصيلة النتائج المميزة الدقيقة التي حصلت عليها، كانت هديتها أن توضع ضمن بحثين علميين منشورين في مجلات علمية عالمية، لم أستطع وقتها وصف حجم سعادتي عندما نشر البحث الأول مع مشرفي، عندها أحسست إنني خطوت خطوات واسعة في طريق البحث العلمي وتعلمت ماذا يعني أن تنشر ورقة علمية؟ وكيف؟ ومتى تستطيع أن تنشر؟ وكيف تحفز لديك المنافسة الشريفة مع الباحثين على مستوى العالم؟ وكذلك شعور الخوف المرهون بالترقب من أن يسبقك أحدهم بنشر بحث يشبه بحثك فيغدو عندها ليس بإضافة جديدة إنما هو توثيق لما قام به غيرك.
تعلمت أيضًا إن العبرة ليست بكمية عدد الأبحاث المنشورة وإنما النوعية وتتحدد بقيمة المجلة العلمية حسب Impact factor، هذه التجربة وحدها وفرت علي الكثير لاحقًا خلال دراسة الدكتوراة.
لكن البحث الصغير الذي يجعلك تضع فيه خلاصة بحثك في كلمات مرهونة بعدد الحروف في الصفحة لتشبه صياغة رسالة كاملة، تعادل أن تكتب كتابًا مقسم إلى فصول ولكن بتوسع.
ولكني سأفرد تجربتي في كتابة الرسالة في الخاطرة القادمة.