الأحياء الْمَوْؤُودَة في المدارس
عندما أردت تمكين نفسي من التطبيق العملي لأسس الأحياء الجزيئيّة قمت بالتسجيل في إحدى متطلبات التطبيق العملي لطلبة البكالوريوس، وعندما استلمت الخطة العملية للمنهاج تفاجأت إنها تتكون فقط من ثلاث ورقات.
قلبت الورقات التي كانت خالية من الشرح تمامًا، وكانت مجرد سرد سريع لخطة الثلاث أسابيع متتالية يبدأ فيها العمل يوميًا من الساعة العاشرة صباحًا وينتهي على السادسة مساءً.
والعجيب إن العمل خلال هذه المدة هي عبارة عن مشروع صغير Project يبدأ باستنساخ جين مرتبط بجين مضيء آخر يعرف ب GFP (بروتين أخضر مشع )، وخلال هذه الفترة يجب عمل زرع خلايا إنسانية لتحضيرها لعملية نقل الجين المستنسخ إليها في الإسبوع الثالث وينتهي المشروع بمراقبة التغييرات الظاهرية للخلايا من خلال مجهر متقدم يراقب الخلايا وهي حية Life imaging.
( وكأنك يا أبو زيد ما غزيت )
جلست أقرأ الورقات الثلاثة وخيبة أمل بدأت تتسلل إلى نفسي من عدم وجود شرح وافي للتجارب، فكل نقطة مؤشر لها هي تجربة بحالها، فعملية استخلاص ال DNA تجربة وعملية البلمرة المعروفة ب PCR بالنسبة لي تجربة وبالنسبة لهم خطوة!، من ثم تحضير الخلايا البكتيرية المستقبلة للبلازميذ الحامل للجين والمراد إستنساخه من ثم اللصق والنقل و…..إنتهاءاً برؤيتها حية مضيئة باللون الأخضر المشع GFP.
بدأت مع الطلاب بالتحضير محاولة تجاهل عدم معرفتي بالتفاصيل، وطبعًا خلال خطوة أو ( تجربة البلمرة PCR ) تكلمت مع زميلين بدأ بتحضير المطلوب وتعليم الأنابيب بأسمائهم وسألتهم: هل هذا أول عملي لكم في هذا الفصل؟ قال أحدهم: نعم، فسألتهم: تبدوان وكأنكما على علم تام بتفاصيل التجربة؟ قال أحدهما: ياااه بسيطة فمثل هذه التجارب حضرنا مثلها الكثير خلال المرحلة الإعدادية والثانوية!!
هنا أخذتني الصدمة من ثم الفضول للتعرف على مناهجهم المدرسية أكثر من التجربة التي نتشارك في عملها.
فسألت أحدهم: يعني هل تأخذون مادة أحياء جزيئية كمنهاج؟ رد علي: لا إنها من ضمن منهج الأحياء وهي تعود أيضًا للمدرس نفسه ومرونته في إعطاء المادة فأنا مثلاً أحببت مادة الأحياء الجزيئيّة من طريقة معلمتي والتي حرصت دائمًا على ربط هذه المادة بمعاهد البحوث في الجامعة وعمل زيارات علمية نقوم فيها بالتعرف على عمل العلماء والباحثين، و مما رأيته شيئاً مذهلاً هو استخلاص ال DNA وإدخاله إلى الخلايا الحيوية المختلفة ونقلها إلى الفئران، ونرى ما يظهر عليها وأيضًا دور الأبحاث في علاج الأمراض وإيجاد أدوية فعالة من خلال الهندسة الجينية، ولكن للأسف وأجده نوعاً ما مبالغ فيه إن هناك أمور لا يحق لنا كطلاب مدارس مزاولتها كحقن الفئران وتشريحها لإننا لا نملك شهادة قانونية لحيوانات التجارب، ولكن كنّا نراقب بشغف عمل هؤلاء الطلاب والعلماء، وقد شاركنا مع مجموعة مدارس ألمانية بمسابقة عالمية في الولايات المتحدة لتطوير جين معين في الطحالب وأخذنا المركز التاني .
هنا قاطعته وقد أثارني الفضول أكثر: عفوًا ماذا تعني بهذه المسابقة؟ قال لي: هم طلاب يتم إختيارهم من معلمي الأحياء على مستوى ألمانيا ويشكلون فريق ويتم عمل ورشات عمل ومناقشة خطة بحث يتم إبتكار مشروع من عدة إقتراحات وعلى أن تكون مطابقة لشروط المسابقة، من ثم نقوم بتقسيم المهام على بَعضُنَا ونعمل مشتركين لمدة محددة لإحراز نتائج ومن ثم إنطلقنا إلى أمريكا وعرضنا البحث في مؤتمر خاص حُدد لذلك وفزنا.
قال الثاني: وبما إنني من مقاطعة ثانية فكان حلمي أن أصبح باحثاً علمياً وكنت في المدرسة دائم البحث ومحاولة الإكتشاف وتفسير الأمور علمياً وهنا لاحظت معلمتي في الصف الثالث هذا الشغف فتم إرسالي إلى أكاديمية تعني بالإهتمام بالطلاب المتفوقين والفائقي الذكاء بشكل خاص.
سألته: أكاديمية بدل المدرسة؟ قال لي نافياً: لا .. لا بقيت في المدرسة ولكن كنت أذهب إلى الأكاديمية ثلاث مرات في الإسبوع بعد الدوام المدرسي ولم تكن مخصصة فقط للعلوم كانت ممتعة جدًا فهناك صفوف للطلاب الشغوفين بالموسيقى، وهناك للمتفوقين بالأداب واللغات وهناك للرياضيات والفيزياء والميكانيكا وغيرها.
سرح فكري بهذا الوصف الجميل وإهتمام المدرسين بطاقات الطلاب المتفاوتة من مادة لأخرى، فالطالب قد يكون شغوفاً بالموسيقى يأخذ إهتمامه وموهبته على محمل الجد فربما يكون بيتهوفن المستقبل، أو من يعشق الرسم فينافس دافنشي ويتعلم أصول الفن، وقد يخرج أديسون آخر ونيوتن وأينشتاين وباستور وماري كوري، ما ميز هؤلاء عن بعضهم هو شغفهم بعلم أحبوه فأبدعوا فيه وليست العلامات النهائية..
أما عن هذا المساق العملي فكان شغفي في التعلم لأدق التفاصيل هو دليلي للمضي رغم الصعاب وقلة الخبرة، فأنا لم أتعلم أسس تجارب الأحياء ومفرداتها في المدرسة عملياً، كنت أحب هذه المادة،ولكن „ البَصّيم „ في مدرستي سابقاً وحتى الجامعة هو من كان له الحظ الأوفر في التمّيز.
الأحياء هي حياة تنطق في جوارح كل مصطلح من مصطلحاتها وعلومها ولكن أسلوب التعليم الرتيب وأد حياتها لتصبح كالمحفوظات، نتعلمها وننشدها وننسخها على ورقة الإمتحان ثم ننساها.