سجون التعليم
يعرف المعلم بالمربي، وكثير من الناس يصفوه بالمربي الفاضل إلا نحن، كان علينا أن نعايد معلمينا بعيدهم سنويًا بالرغم من أن حقدًا أو كرهاً كان يعيش في داخلنا لما يقومون به معنا.
المدارس في سوريا ليست كما هي في أي دولة أخرى، و إن كان ذات الأستاذ و طباعه موجودًا في دول أخرى، و إن كان الأستاذ يضرب طلابه في دول أخرى، يبقى النموذج السوري بالنسبة لي مميزًا، فحياتنا التي قضينا جزءً منها في تلك المدارس كانت أشبه بتدمير بطيء للجيل الذي سيكبر مستقبلًا.
كانت المدرسة الإبتدائية نسخة مصغرة من فروع الأمن السورية، و التي دفعت السوريين بثورتهم أخر الأمر، لم يكن الأستاذ ليُحاسب فالضوء كان أخضر بالنسبة له، عصا سنديان يضرب بها الطالب، يشغل الأستاذ باله أكثر بأفضل عصا ممكن أن تسبب ألم للطالب لكي يعاقبه بها، تعددت أنواع العقاب كثيرًا، منها العصا العادية، و منها عصا من خشب السنديان تصلح لأن تقتل أحدهم بها بحال لم يكن لديك سلاح ما، أحيانًا كان المدرس يأتي بالخرطوم، و أحيانًا أخرى يأتي مدرس آخر بحزام الخصر ليعاقب به طلابه.
مع أن ذاكرتي لا تُسعفني كثيرًا لأنه مضى وقت كثير على تلك المرحلة، إلا أن صور العقاب التي تشبه إلى حد ما صور التعذيب في فروع الأمن، مازالت راسخة في بالي، منها عقاب مدرس الرياضيات لأحد زملائي بالرفس و الضرب لدرجة وصلت لأن يحمل زميلي من أذنه عقابًا له، صورة أخرى لم تفارق بالي عندما انتبه مدرس الرياضيات في مرحلة أخرى لطالبين تسلل إليهما الملل وقت الدرس فبدأ أحدهم بالشخبطة على الحائط بجانبه، لينضم إليه زميله الآخر بالشخبطة، فما كان من المدرس وقتها إلا أن عاقب الطالبان بجعلهما يلحسان الحائط!
ذاكرة قاسية بكل تأكيد، مليئة بتلك الذكريات التي مرت علينا وهدمت من نفسيتنا، جعلتنا نكره المدرسة لا بسبب كره الدراسة، و إنما بسبب تمرد الأساتذة و النظام التعليمي البغيض على كل قوانين التربية في العالم، لا أنسى وقت ما كان أستاذ اللغة العربية يراعي الطلاب في الضرب، فإن تعب الطالب من الضرب يسجل له عدد ضربات آخر على دفتره الخاص ليستكمل عقابه وقت ما تتطلب الظروف.
لم يكن هذا الجانب السيء من التعليم وحسب، كانت المناهج السيئة هي أحد أسباب فشل الجيل المتعلم، و هذه النقطة هنا موجودة في عدة دول أخرى غير سوريا، إنما في سوريا مصاحبة هذا الفشل لضرب التلاميذ و هم صغار، أدت لكره المدرسة وكل ما يتعلق بها، مدرسين آخرين كانو يحقدون على الطالب، ينظرون إليه وكأنهم عدوًا لدودًا سبب لهم مشكلة ما في حياتهم، كان أكثر المدرسين حقدًا على التلاميذ هم مدرسوا الرياضيات، حتى أن عقاب مدرس منهم لأحد الطلبة استدعى أن يقوم الطالب بالانتقام منه خارج المدرسة برميه بالبيض.
هذه كانت المرحلة الإبتدائية، تغيرت الأمور قليلًا في الإعدادية، كوننا أصبحنا أكبر عمرًا فيخجل بعض المدرسين من ضربنا، في حين كان يتولى الموجه عملية العقاب، في هذه المرحلة كان الموجهين أشبة برعاة الغنم، يمشون في الباحة و هم يحملون العصي و الخراطيم لضمان انضباط الطلاب و دخولهم للصفوف، و في حال تأخر الطلاب للدخول إلى صفوفهم التي تشبه الزنازين، يبدأ الموجهون حملتهم العسكرية بالهجوم على الطلاب في الباحة ضربًا و تكسيرًا للعظام.
أما في المرحلة الثانوية التي جعلت منا بالغين أكثر فكان المدرس أو الموجه جريء جدًا بحال قرر الاعتداء على طالب ما، فأغلب الطلاب في هذه المرحلة هم رجال، لا ينتظرون سبب للهجوم على المدرس أو الاعتداء عليه في حال اعتدى عليهم، إلا أنها لم تكن لتخلو من حادثة ما، فأذكر اعتداء الموجه على أحد زملائي ممن تأخر في الدخول، مما استدعى زميلي للإمساك بالموجه و دفعه ثم الإمساك بالعصا و كسرها أمامه، وقتها تم حل المشكلة باستدعاء ولي الأمر.
لاتختلف كثيرًا المدارس في سوريا عن معتقلاتها و زنازينها، لا فرق كثير، المدرس يلعب شخصية رجل الأمن، و مدير المدرسة يلعب دور مدير الفرع الأمني، الصفوف شبابيكها مغلقة كالزنزانات، و العقاب كان نسخة مصغرة عن عقاب المعتقلين، كانت المدرسة بالنسبة لنا كطلاب هو ذلك المكان المحاط بالسور العالي و الذي علينا أن نعتقل في 7 ساعات أو 8 يوميًا، و في حال خالفنا تعليمات سجانينا بعدم كتابة الواجب المدرسي، سنتلقى عقابًا قاسيًا.
على الهامش: هددنا أحد الموجهين مرة من المرات بأن يشحط (يجر) طلاب الصف و أهاليهم واحدًا واحدًا لأننا نظرنا من شباك المدرسة على منزل أحد المسؤولين القريب منها.