لماذا يتجه متفوقو الطب للتخصص في الخارج؟
“طالب طب”.. كلمتان لهما وقعٌ خاصّ دائما في الأردنّ، في مجتمع يحتفي بتخصص الطب وطلابه، ويأمل كل أب وأمّ فيه بأن يلتحق أولادهما في هذا التخصص ذي الرّونق غير العادي، والمكانة الاجتماعية المميزة، وما يدّعونه من راحة مادّية للطبيب بعد تخرّجه. إلّا أن الأمر يبدو غير ذلك حقّاً على أرض الواقع، بل نستطيع القول أن التوجه الكثيف والرغبة الملحّة بدراسة الطبّ في مجتمعنا أصبحت ظاهرة غير صحّية، بل وفقاعة تزداد حجما مع كل سنة، وربما تنفجر يوماً ما مولّدة حقبة جديدة من النظرة العامة تجاه هذا التخصص بشكل عام.
ولعلّ من أهمّ المؤشرات على الأوضاع السيئة التي يعيشها طالب الطب والصعوبات التي تقف صلبة في طريقه نحو التميز والحياة الكريمة، لعلّ من أهمّها ظاهرةُ توجّه الطلّاب للتخصّص خارج الأردن، وخاصّة إلى الولايات المتحدة ودول أوروبا كألمانيا وغيرها. فلماذا يتّجه مبدعوا ومتفوّقو كلياتنا الطبية إلى الخارج؟ وهل هي ظاهرة على هذا القدر من الأهمية والانتشار؟
لا أحد ينكر وجود تيّار واضح وقويّ بين طلاب الطب في الأردن يحثّهم على الهجرة وإكمال التخصص في الخارج، ويكفي دليلاً أن ننظر إلى أعداد المتقدمين لامتحانات التخصص في أمريكا السنة الماضية من طلبة دفعة الخريجين في الجامعة الأردنية! حيث تقدّم ما يزيد على 20 طالبا وطالبة على الأقل للامتحان بشقّيه (الأول النظري والثاني العملي) أو لأحدهما، كما يفكّر الكثيرون غيرهم بالتقدّم لهذه الامتحانات بعد سنة الامتياز، ويدرسون لها حالياً بكل جدّية كونها “الحل الوحيد” على حد تعبيرهم، هذا ناهيك عن الكثيرين ممن يقدمون الامتحان أصلاً قبل التخرج وأثناء سنوات ثالثة ورابعة وخامسة (يقدّر عدد الذين يكملون التخصص في أمريكا من كل دفعة ب 30% من عدد الطلاب تقريبا على الأقل). حتى الكلّية ووزارة الصحة نفسها تعترف بهذا الأمر لأنه واقع نراه رأيَ العين، لكنهم رغم هذا لا يفعلون شيئا للتقليل منه وحثّ الطلاب على البقاء في الأردن، مكتفين بحلول بدائية لا تسمن ولا تغني من جوع! ومفسحين المجال لمزيد من الكفاءات للذهاب بعيداً عن وطنهم سعيا وراء حياة كريمة تضمن لهم حقوقهم وثمن جهودهم، ولا تتوفّر هنا، في الوطن.
ومن الجدير بالذكر هنا التنويه إلى أن البلدان التي يذهب إليها الأطباء عادة هي أمريكا (النسبة الأكبر)، ثم ألمانيا (بنسبة أقل)، ثم أستراليا وقطر (نسبة محدودة جداً)، فحديثنا هنا عن أمريكا بالتحديد لواقع الحال، رغم أنه ينطبق كفكرة عامّة على جميع حالات “الخروج للتخصص”.
أسباب الاتجاه نحو أمريكا أو الخارج (على صعوبة الخيار وكثرة متطلباته) وجيهة جداً، فكما يقول الطبيب المميز المتخرج حديثاً من الجامعة الأردنية، بشار الزغول: “أحد أهم الأسباب هو عدم تكافؤ الفرص في السوق المحلي، بل إن السوق تم إشباعه بخريجي أوكرانيا ورومانيا ومصر واليمن، ولا أعترض على الخريجين من تلك البلاد، ولكن أعترض على النظام الصحي في الأردن الذي يقبل كل هؤلاء الخريجين وحتى خريجي الأردن بدون امتحان معياري محكم ومعدّ جيدا ًمثل امتحانات أمريكا، وهذا بدوره أتخم السوق واختلط فيه الحابل بالنابل”. إذا، لا يمكن أن نطلب من متفوّقينا البقاء في الوطن طالما هم يرون أمامهم الظلم واقعاً ومتفشّياً بعدم وجود معايير واضحة وحاسمة كما في بلاد أخرى كأمريكا، وسيادة الواسطة والمحسوبية والعشوائية للقطاع الطبي، الذي من المفترض أن يكون من أشدّ المجالات حساسية في توزيع مراكزه ومناصبه!
سبب رئيسي آخر يبرزه العديد من الأطباء، ألا وهو أنّ مرحلة الإقامة (التخصص) في الأردن قاسية جداً على الأطباء، حيث يتعرض لكثير من أشكال الاستغلال والذلّ حتى للأسف! دون تقدير واحترام لمهنته وإنسانيته، لا مادياً ولا معنوياً! بينما يحصل في الخارج على راتب أفضل (أحيانا بكثير)، وتعليم أفضل وأكثر تقديراً له كشخص وكطبيب، مما يجعله يضع الخروج من البلد نصبَ عينيه.
من ناحية أخرى، إن مرحلة ما بعد الإقامة أو التخصص هي مرحلة مهمة تبدأ عملك الحقيقي فيها كطبيب، والتخصص في الخارج يضيف إلى سيرتك الذاتية الكثير من القوة، ويفتح أمامك خيارات أكثر من خيارات ما بعد التخصص محلّياً. فمثلاً دول الخليج بالتحديد تهتمّ كثيراً بالمستشفى الذي أنجزتَ فيه إقامتك، وهو أمر يمنحك أفضلية في حال تخصّصت في أمريكا خصوصاً.
ومن الجدير بالذكر أيضا أن كثيرين ممن يبقون في الأردن، يبقون بسبب أنّ التخصص الذي يريدونه نادر القبول في بلدان الخارج (مثل تخصصات العظام والعيون والجلدية وغيرها)، فيضطرّون مرغَمين للبقاء هنا وتحمّل المساوئ لتحقيق هدفهم لا أكثر.
ويناشد أطبّاء الأردنّ القطاعَ الطبي الحكومي والخاصّ بتحسين أوضاع الأطبّاء، والنهوض بالمستوى المعيشي للطبيب المقيم بما يتناسب مع حاجاته ومكانته، لعلّنا نسهم في إبقاء مواهبنا في أوطاننا، قبل أن يسرقها الخارج منّا، ونجنّبهم الغُربَة المرّة في سبيل العيش الكريم، ولكي لا نستمر بالدوران في حلقة مفرغة، نحو التدهور والانهيار.
طالب جامعي
الجامعة الأردنية
طب بشري