تجاهل تدريس العربية والإسلامية في إسبانيا.. هل يهدد هوية أبناء الجالية العربية؟
مع بداية كل موسم دراسي تلوح في الأفق أسئلة حول واقع أبناء المهاجرين المسلمين في ظل المنظومة التربوية الغربية؟ وكيف يتعاملون مع غياب مادة التربية الإسلامية عن البرامج التعليمية في المدارس الحكومية؟
وبقدر ما تبدي الجالية المسلمة المقيمة بإسبانيا ارتياحا لجودة التعليم؛ فإنها منشغلة بضرورة الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية داخل مجتمع متعدد الهويات والثقافات.
تخوفات عَبَّر عنها “كمال” المغترب بإسبانيا منذ 25 سنة، وقال لـ”شبكة زدني”: “إن المساجد الملاذ الأول والأخير لتلقين أبناء الجيل الثاني من المهاجرين أبجديات اللغة العربية والتربية الإسلامية، والتي تحملت إدارتها عبء تسيير الحقل التربوي التعليمي، الذي ما زال يعاني من عشوائية التسيير؛ بسبب الصعوبات المالية تارة، وقلة الكفاءات والقوانين تارة أخرى، مضيفًا أن تشتت الجمعيات الإسلامية والفيدراليات بسبب الأيديولوجيات؛ يزيد من عرقلة تسيير الحقل الديني، ولا يلبي ولو جزءًا بسيطًا من تطلعات الجالية المسلمة بإسبانيا، بالإضافة إلى غياب مُقَرَّر دراسي ونموذج تربوي تعليمي يتماشى مع احتياجات أبناء المهاجرين، الذين فتحوا أعينهم على مجتمع لغة تواصله لا تجمعها باللغة العربية سوى بعض المصطلحات، وممارسات دينية مسيحية تتناقض مع الإسلام في أغلبها”.
الإسلام واللغة العربية في المهجر.. المعادلة الصعبة
يعاني المهاجرون بصفة عامة في القارة الأوروبية من أزمات متعددة، تتمركز بصفة رئيسة في كيفية الحفاظ على هويتهم الأصلية وخصوصيتهم الإسلامية، وفي الوقت نفسه البحث عن آليات الاندماج وعدم الانغلاق على الذات، وتشير الإحصاءات المتاحة إلى تواجد ما بين 18 و23 مليون مسلم، بما يشكل قرابة 7 بالمائة من مجموع السكان، وما زالت أعدادهم تتزايد بسبب الهجرة، وارتفاع أعداد المولود من أبناء المهاجرين العرب، وهو ما بات يطرح إشكالية تعليم اللغة العربية وتلقين أصول الدين الإسلامي.
تعلم اللغة العربية وأصول الإسلام بالنسبة لأبناء الجالية أداة فعالة وأساسية للحفاظ على الهوية، وفي إسبانيا المشاكل مستمرة فيما يتعلق بهاتين المادتين، ويقول رئيس الجمعية الجزائرية الإسبانية التي تُعْنى بمهاجري المغرب العربي “كشيدة كمال” لـ”شبكة زدني”: “إن أزمة عميقة يعانيها أبناء المهاجرين في إسبانيا بسبب اللغة والدين، حيث لم تحظَ بما يكفي من الاهتمام، سواء من جهة الدولة المستضيفة وهي إسبانيا، أو من طرف الدول الأصلية” وتابع: “إنه بات من الضروري الالتفات إلى هذه النقطة في ظل ارتفاع حالات التجمع العائلي”.
دعوات للإصلاح والمساجد تتحمل العبء
وأوضح “كشيدة” أن مجال تعليم اللغة العربية وأصول الإسلام لأبناء المهاجرين، يجب إصلاحه بالاعتماد على مقاربة علمية، فزمن بعثات الأساتذة والمقررات قد ولى، وأصبح من الضروري استثمار الجهود في تكوين الأساتذة في إسبانيا، واعتماد مناهج تربوية جديدة في الكتب وطرق التدريس ملائمة للبيئة الأوروبية، كما أن واقع الأزمة لا يستدعي تدبيرًا استعجاليًا؛ بل تأملًا عميقًا يأخذ بعين الاعتبار الجانب النفسي والاقتصادي لواقع الهجرة.
وفي ظل ضعف دور سلطات الدول الأم للجالية في هذا المجال بإسبانيا؛ تتحمل جمعيات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية كالمساجد والمراكز الثقافية الإسلامية عبء المسؤولية، يضيف رئيس الجمعية الجزائرية الإسبانية، وأشار إلى أن ذلك يبقى غير كاف، على اعتبار أن الأساتذة لا يخضعون للتكوين ويفتقرون إلى مؤهلات أكاديمية، وغالبًا لا يتقنون لغة بلاد الاستقبال، وطرق التدريس المتبعة في المدارس الإسبانية، وقال: “كيف يمكن إقناع تلميذ في سن 8 سنوات بأن الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء، وان الله أحد لم يلد ولم يولد، بينما الطفل نفسه يتلقى في المدرسة الحكومية معلومات محرفة عن النبي عيسى عليه السلام، وأخرى عن الله عز وجل؟”.
80 بالمائة من أبناء الجالية يتعلمون العربية في إسبانيا من أئمة
“أمين” مغربي مقيم في “أليكانتي” بإسبانيا، برفقة زوجته وأبنائه الأربعة، يشتكي من تعرض أبنائه الطلبة إلى صعوبات في اللغة العربية، وفي الحفاظ على أصول الدين الإسلامي، معبرًا عن تخوفاته من ضياعهم، وقال: “إن عملية تدريس اللغة العربية والدين الإسلامي تشوبها عوائق كثيرة، مثل: قلة الساعات المخصصة للتدريس، وعدم توفر غالبية المساجد على قاعات التدريس، وغياب مدرسين أصحاب كفاءة، وصعوبة متابعة مستويات الأبناء التعليمية”.
و قال “أمين” لـ”شبكة زدني”: “إن من أبرز المشاكل التي تواجه مغاربة إسبانيا: مشاكل التربية الإسلامية وتعليم اللغة العربية، ما يستدعي ضرورة الانتقال من العمل التطوعي إلى العمل المؤسساتي المدعوم من طرف الدولة المغربية، عبر إرسال معلمين أَكْفاء في اللغة العربية والدراسات الإسلامية، ومتمكنين من ثقافة بلدان المهجر ولغتهم، أو العمل على تكوين مدرسين من أبناء الجالية الحاصلين على شهادات جامعية، مع تعبئة الكفاءات والطاقات المهنية المغربية والأدمغة المهاجرة، وإشراكهم في إطار مشروع تربوي وثقافي وتنموي شامل.”
وأشار “أمين” إلى أن أكثر من 80 في المائة ممن يتعلمون اللغة العربية في إسبانيا يتلقونها عن طريق جمعيات المجتمع المدني، وأكثر هذه الجمعيات هي مؤسسات دينية، وأغلبها مساجد، فأحيانًا الطفل أو التلميذ لا يستوعب طريقة تلقين هذه المادة من طرف غالبية الأساتذة؛ لأنهم أئمة لم يدرسوا الوسائل البيداغوجية للتربية، وبالتالي يجد التلميذ نفسه بين نقيضين، تعليم المدرسة الإسبانية وتعليم المساجد.
رغم الاتفاقيات والقوانين.. تدريس العربية والإسلام يدفع ثمن التجاهل
الاتحاد العام للجزائريين بالمهجر الكائن مقره بمدينة “فالنسيا” بإسبانيا، وعلى لسان رئيسه “سعيد بن رقية”، شدد في تصريحات لـ”شبكة زدني”، على ضرورة إبرام اتفاقات بين الدول الأوروبية والبلدان الأم للمهاجرين؛ من أجل تنظيم عمليات تدريس اللغة العربية والدين الإسلامي، كما هو حاصل مع فرنسا، وأوضح أن هذه الاتفاقات تهدف إلى تعليم مندمج في البرنامج الدراسي الرسمي للبلد المضيف، واعتبر أن النهوض بعملية تعليم الدين الإسلامي واللغة العربية، أمر إستراتيجي للحفاظ على الهوية العربية والإسلامية للأجيال القادمة.
وأضاف “بن رقية”، من أجل وضع حد لمشاكل أبناء الجالية الطلبة في إسبانيا، وَقَّعَت اللجنة الإسلامية في إسبانيا اتفاقًا مع حكومة مدريد، تنص على حق المسلمين في تلقي محاضرات عامة أو خاصة في التربية الإسلامية بالمدارس الرسمية، كما نصت على أن يقوم معلمون تابعون للَّجنة الإسلامية بتدريس المناهج التي تحددها، لكن لم ينفذ أي من بنود الاتفاق، ولا يُدَرَّس الإسلام إلا في عدد قليل من المدارس.
وتابع رئيس الاتحاد العام للجزائريين بالمهجر لـ”شبكة زدني”: “إن هذا التجاهل من طرف السلطات الإسبانية، كشفته اللجنة الإسلامية التي سجلت قرابة 600 طلب من تلاميذ يريدون دراسة الدين الإسلامي في المدارس العامة بمنطقة “كتالونيا”، وبررت الرفض بأن المعلمين المرشحين لا يستوفون الشروط التي وضعتها وزارة التربية والتعليم، بالمقابل -وطبقًا لبيانات وزارة التربية والتعليم الإسبانية-؛ طلب أولياء 38,677 تلميذًا من المرحلة الابتدائية، و102,305 تلاميذ من المرحلة الثانوية، بتدريس أبنائهم مادة الدين المسيحي، تم الاستجابة للمطالب، وأحضرت الوزارة 2866 مدرسًا، ووَقَّعَ منذ عدة أشهر عدد من الباحثين من جامعات مختلفة بإسبانيا، على وثيقة تشدد على ضرورة أن تتضمن المراكز التعليمية مادة خاصة عن تاريخ الأديان لتعليمها على جميع المستويات”.
يقول “بلقاسم” عضو مجلس إدارة مسجد مدينة برشلونة الإسبانية لـ”شبكة زدني”: “ورغم العدد الكبير للتلاميذ المسلمين في إسبانيا، حيث يقدر عددهم على مستوى مقاطعة “كتالونيا” وحدها، أكثر من 70 ألف تلميذ، وأكثر من 15 ألفًا بمنطقة “مورسيا” غير أن مادة التربية الإسلامية غير موجودة في المدارس، بالرغم من وجود قانون ينص على تدريسها في المرحلة الابتدائية إجباريًا، وهي الوضعية التي حاولت الجاليات المسلمة حل الإشكال عبر التعاقد مع 86 مدرسًا في إسبانيا بأكملها، وهو عدد ضعيف، وأقل 10 مرات مما هو مطلوب، والجالية الإسلامية ترفع شعار “المزيد من التعليم من أجل المزيد من التكامل”، وتطالب بإدخال دروس عن الدين الإسلامي بالمعاهد والمدارس، لأن عدد المسلمين يتزايد في إسبانيا”.
حلول مؤقتة لحماية اللغة العربية والإسلام .. إلى متى؟
و ذكرت “حورية سهيلي” رئيسة جمعية “دار الجزائر”، ومقرها بـ”فالنسيا” الإسبانية لـ”شبكة زدني”: “إن جمعيتها تمكنت من فتح مدرسة جزائرية لتدريس اللغة العربية لأبناء المهاجرين، حماية لهم وحفاظًا على الهوية، وقد تم الاستنجاد بأساتذة مقيمين في إسبانيا، بشهادات عليا في الأدب العربي، وتسطير برنامج تعليمي جزائري مائة بالمائة للمبتدئين، وبصفة مستمرة”.
حلول مؤقتة تعتمد على برامج دراسية من المشرق والمغرب، كل جالية تلجأ إلى مقررات رسمية لبلدها الأم، ما يبقي على تشتت الجاليات المسلمة والعربية، ويجعل التلميذ غير قادر على الاستيعاب بسبب سيطرة اللغة الإسبانية على لسان أبناء الجالية وعقلها.
“أنطونيو ريندون” مسؤول البرامج بمؤسسة “ثلاث ثقافات” الإسبانية، أوضح لـ”شبكة زدني” أن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها إسبانيا، أحد أهم العوامل التي تمنع فتح أبواب توظيف مدرسين لصالح الجالية العربية والمسلمة في المدارس الحكومية، كما أنها تهدد استمرار المدارس العربية، على اعتبار أن غالبية المراكز الإسلامية تعتمد على إمكانياتها الذاتية.
وتابع المسؤول: “أنه رغم كل هذه المشاكل والتحديات؛ إلا أن المدارس العربية بإسبانيا لعبت –وما زلت تلعب- دورًا أساسيًا في الحفاظ على هوية أبنائها، ما يتطلب تحركًا عاجلًا من حكومات الدول المغاربية والمشرقية لإنقاذ رعاياها، من خلال وضع إستراتيجية عمل بيداغوجي واضحة المعالم، خاصة أن إسبانيا دخلت ركب البلدان الغربية التي تشهد أكبر نمو للجالية العربية والإسلامية، والتي بدأت تدق باب الجيل الثالث من المهاجرين، وهو بحد ذاته يعدّ تحديًا كبيرًا يواجه هذه الأجيال، بعيدًا عن الخلافات الضيقة التي تعيشها الهيئات الدينية والفيدرالية بإسبانيا”.
حكومات إقليمية إسبانية تتجاوب.. أهي البداية أم احتواء الغضب؟
وقررت الحكومتان الجهويتان بإقليمي “فالنسيا” و”إكستريمادورا”، تدريس مادة الدين الإسلامي في المدارس الحكومية الإسبانية ابتداء من العام الدراسي المقبل 2018 / 2019، بعد مفاوضات بين ممثلي المفوضية الإسلامية الإسبانية ونظرائهم من وزارة التربية في كلا الإقليمين.
وتم إدراج مادة الدين الإسلامي في مناهج المدارس الابتدائية، مادة اختيارية يحق لآباء التلاميذ طلبها أسوة بمادة الدين المسيحي، وهو القرار الذي لقي ترحيبًا من طرف الجالية العربية والإسلامية في المنطقتين.
فهل هي بداية تطبيق القانون وإعادة الحق لأصحابه؟ أم أن الأمر مجرد خطوة لإسكات أصوات المطالِبين بتدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية في المدارس الحكومية؟