في الغُرفِ المكتظة متسعٌ للحلول المبتكرة
لن أنسى ما حييتُ معلمةَ اللغة العربية التي غمرَتْنا بحنُوِّها ورعايتها لنا عندما كنَّا في المرحلة الابتدائية، لن أنسى تعزيزها لي بهديةٍ احتفظتُ بها لسنوات حتى أني كتبت مقالةً في إحدى الصحف عن أثرها فيَّ؛ وكيف جعلتني شغوفةً بالتعليم مثلها؛ ولتأثري بها دَرَسْتُ اللغة العربية؛ ستبقى معلمتي تعانق ذاكرتي لما لها من مكانة خاصة في قلبي.
بدأتُ رحلتي في مجال التعليم بتدريس الصف الثالث الأساسي؛ فوجدتُ نفسي قريبة من الأطفال؛ دخلتُ عالَمهم بيُسر، وأحببتُ فكرة تعليمهم؛ فَهُم بُناة المستقبل؛ لذا قررتُ أن أواصل مسيرتي العلمية وألتحق بــ “بكالوريوس معلم صف“؛ وأكملتُ لاحقًا تطوير نفسي بدراسة دبلوم “تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التربية“ وماجستير تكنولوجيا التعليم.
تبين لي بمرور الأيام أن التعليم لا يقل أهمية عن الطب والهندسة اللَّذَين ينظر إليهما مجتمعنا بعين التقدير؛ منذ صغري كنت طموحةً لا أتوقف عن تحقيق أهدافي التي أؤمن بها؛ لذا عملتُ لأجلها متخطية الصعاب والتحديات التي تعترض طريقي بإيجابية، وبذلت جهدي لإيجاد تعليم نوعي أُعدُّ من خلاله طلبتي للحياة والمواطَنة الصالحة وتسليحهم بمهارات النجاح في القرن 21؛ لذا طوَّرت نهجي التعليمي لإيماني بأن بناء الإنسان يعني بناء قادة التغيير الذين تُلقى على عاتقهم نهضة المجتمعات وتغيير العالم.
إن وضوح رؤيتي تلك تكلَّل بفوزي بالمركز الأول بـ “جائزة الملكة رانيا للمعلم المتميز في عام 2009 “ ولقد أضاف لي التكريم الملكي مسؤولية كبيرة بنشر ثقافة التميز والتغيير في الوسط التربوي والارتقاء بالعملية التعليمية بكافة عناصرها.
وتألَّقت حكايتي بشكل مختلف حين نافستُ بكل فخر عالميًا على لقب أفضل معلم في العالم ليُدرج اسمي ضمن القائمة النهائية لأفضل خمسين معلمًا في العالم لعام 2017 حيث تقدم لمسابقة جائزة المعلم العالمي التي تطلقها مؤسسة “فاركي“ البريطانية أكثر من 20 ألف معلم متميز حول العالم من 179 دولة، وكانت قائمة الخمسين من 37 دولة.
كان التحدي الأكبر في نظري هو أن أحافظ على جودة التعليم بالمستوى نفسه الذي كان له دور في الحصول على جائزة وطنية؛ لذلك انطلقتُ بكل حماسة نحو توظيف خبرتي في مجال التدريب والتأليف ونجحت في ابتكار “أنموذج التعلم الممتع للجميع“؛ والذي صُمِّم ليتناسب مع الصفوف المكتظة ويهدف إلى زيادة تفاعل الطلبة واندماجهم من الجنسيات المتعددة واللاجئين؛ فقد انبثقَ الأنموذج من احتياجات الواقع نتيجة زيادة أعداد طلبتي من 25 إلى 60 طالبًا في الغرفة الصفية بعد أزمة اللجوء السوري؛ وقد بدا واضحًا تأثُّر منظومة التعليم في الأردن باكتظاظ الصفوف وضعف الطاقة الاستيعابية؛ وبطبيعة الحال أدى ذلك إلى قصور في أداء المعلمين، وقد انعكس على مستوى الطلبة سلوكيًّا وعلميًّا.
إن قدرتي على العمل مع 60 طالبًا في صفٍ واحد يضم لاجئين وجنسيات متعددة؛ يُعد الإنجاز الأكثر إلهامًا لمعلمي الأردن في ظل التحديات التي تحيط بالأردن من حروب وعنف؛ لقد واجهتُ صعوبةً في اندماج الطلبة السوريين الذين عانوا من اضطرابات نفسية نتيجة الحرب وعدم تقبلهم للآخر؛ وفي المقابل بدأ يشعر الطلبة أن زملاءهم ينافسونهم على فرصهم بالتعلم؛ إضافة إلى ضعف الطلاقة في المهارات القرائية والكتابية والحساب؛ ناهيك عن أن وقت التعلم محدودٌ مقارنة بالعدد..
لقد كان جُلّ هَمي تهيئة البيئة الصفية والوصول بالتعلم إلى كل طالب بحيث يتساوى اللاجؤون في حقهم بالتعليم مع باقي الطلبة.
ومن هنا طوَّرتُ نموذجي؛ والحمد لله جعلتُ الجميع يُقبِلون على التعلم كأنه وجبة متعة تمنحهم دعمًا نفسيا؛ فحوَّلتُ صفي إلى بيئة جاذبة آمنة وفق منهجية تُدخل الحب والفرح إلى قلوب الأطفال وتحفِّزهم لحب المدرسة؛ هذه المنهجية تُنفَّذ بإدارة صفية إبداعية ضمن استراتيجيات تفاعلية بين المعلم والطلبة وبين الطلبة أنفسهم ليستمتعوا بأنشطة تعليمية موجهة تقوم على نظام مجموعات مبتكر.
صمَّمت أنشطة فريدة وألعابًا من خامات البيئة وأخرى مبتكرة لتنشيط الذاكرة بالإضافة لأنشطة التأمل والاسترخاء لبث الطاقة الإيجابية في نفوس الطلبة وقد شاركتُ نموذجي مع المعلمين من خلال تنظيم دورات التعلم الممتع برعاية “نقابة المعلمين الأردنيين“، لإخراجهم من الإحباط الذي ينتابهم ولتحفيزهم على التعامل بإيجابية مع الطلبة.
إن الوصول إلى العالَمية ما كان ليحدث لولا التزامي بمعاييرَ صارمة في مسيرتي المهنية؛ هذه المعايير تخضع لتحكيم في غاية الشفافية والحزم؛ وعلى المترشح أن يكون ذا نهج تعليمي مميز؛ مبدعًا مبتكرًا ملهمًا مؤثرًا في طلبته وفي مجتمعه؛ قائدًا للتغيير يحدث فرقًا نوعيًا في كافة عناصر عملية التعلم؛ متجاوزًا التحديات التي تعترضه بعزيمة وثبات؛ مُسطِّرًا أروع قصص النجاح.
في حصصي لامستُ دائمًا عقول ووجدان طلبتي، وراعيتُ أنماط تعلمهم وذكاءاتهم المتعددة، وعملتُ على تنبيه حواسهم، وراعيتُ خصائصهم النمائية وتوجيه طاقاتهم لما هو مفيد.
أتذكر أنه قبل يوم من إعلان نتائج المسابقة العالمية 2016/ 12/13 في حفل جائزة المعلم المتميز أشارت جلالة الملكة رانيا لقصة نجاحي بصفتها واحدة من القصص الملهِمة في كتيب الحفل؛ قائلة:
“من بين تراكمات تلك التحديات – يشق نور المعلم طريقه، والموجودون معنا اليوم ابتكروا حلولًا من رحم الحاجة ومن عمق التحدي، أثبتوا أن في الغرف المكتظة متسعًا للحلول المبتكرة والأفكار الخلاقة.. ولهذا للمعلمين عندي مكانة خاصة.“
حاليًا أعمل مديرة مدرسة أساسية في عمان؛ ولقد استطعت التواصل مع عدة مؤسسات من خلال تنفيذ برامج ودورات متنوعة تستهدف كافة عناصر العملية التعليمية من بيئة وطالب ومعلمة ومن أبرزها (برنامج بناء السلام مع مبادرة مدرستي؛ وبرنامج بيئة داعمة شاملة مع أكاديمية الملكة رانيا لتدريب المعلمين؛ ومشروع بيئتي الأجمل وبرنامج التمكين مع جمعية جائزة الملكة رانيا للتميز التربوي ومعهد التمكين الأمريكي؛ بالإضافة إلى مجموعة من الورش التدريبية التي نفذتها ضمن خطة التطوير التربوي التي تركت بحمد الله أثرًا واضحًا لدى زميلاتي.
إن التعليم تجربة حياة فبقدر ما أعطيته بالفطرة من فكري وقلبي أعطاني قيمًا وآفاقًا وتجارب وخبرات وأمدني بالقوة والعزيمة والإرادة.
وإنني أدركت خلال مسيرتي التعليمية أن تغيير اتجاهات الأشخاص ليس بالأمر الهيِّن في مجتمعنا ويستغرق وقتًا أطول ليحصد المُخرجات المنشودة؛ لذلك علينا أن نعمل لأجل الفكرة التي نؤمن بها؛ وأن نستنهض الهمم في سبيل التغيير الحقيقي الذي ينهض بالمجتمعات ويبني مستقبلا واعدًا للأجيال.