التعليم خــارج الصنــــدوق
يُسعدني أنْ أكون معكم في شبكة زدني التعليمية ، أنقل لكم خبرات تربوية ونتحدث عن وضع التعليم في بلادنا العربية ، أسمع منكم نتحاور ونناقش وأحدثكم عن محاولاتي للتغيير والتطوير ، آملة أن أنقل خبرات أكثر من ثلاثين عامًا قضيتها في رحاب التعليم أتَعَلّمُ وَأُعَلِّمُ ، هدفنا تطوير التعليم والخروج من صندوق الطرق التقليدية النمطية القديمة ، والتغيير نحو بناء القدرات الذاتية للأفراد من أجل النهوض بمجتمعاتنا ..لأننا بالعلم وحده نسمو ونعلو.
أنا هيا محمد الحاج منصور ، تَعَلّمْتُ في مَدارسَ دولةِ الكويت الحكومية الحبيبة ، وحصلت على شهادة اللغة العربية وآدابها ثم دبلوم عالٍ في المكتبات من جامعتها ، وشَرَعت أعَلِّمُ في مدارسها الحكومية ثم انتقلتُ للمملكة الأردنية الهاشمية حيث أكمَلْتُ مَسيرةَ التّعليم فقد تعلمت الكثير وعَلّمْتُ أكثر، علّمْتُ اللغة العربية في المدارس الخاصةِ، وأَلَفْتُ كتابًُا في عام 2009 وطُبِعَ في عام 2014 بعنوان ( التعليم خارج الصندوق بين النظرية والتطبيق ).
طوال عَمَلّي في دولة الكويت كنتُ أعَلِّم بالطرقِ التّقليدية التّي تعلّمنا بها ، أدخل الحصة وأبدأ بالكتابة على اللوح عنوان الدرس وشرح المفردات وشرح القصيدة والطلبة ينقلون ويحفظون ويكررون وينسخون، سنوات وسنوات جعلتني أشعر بالملل والضجر، وطلبت من مديرة المدرسة أن أتفرغ للأنشطة اللامنهجية حيث وجدت مساحة واسعة للإبداع، فقد كنت مسؤولةً عن كلِّ المسابقات المدرسية؛ من مسابقاتٍ شعريّةٍ التي غالبًا ما كنت أحصد المراكز الأولى دائمًا، ومسابقات الصحيفة المدرسية (إعداد صحيفة حائط من تصميم ورسم وكتابة مقالات في حدود ساعتين فقط )، ومسابقات زراعية ( أحواض تزرع بها الأزهار بطريقة إبداعية )، وإلقاء للشعر، ومسرحيات مدرسية وبرامج إذاعية وغير ذلك من أنشطة أجد فيها مجالًا للإبداع والخروج عن المألوف .
ولم أعلم أنني سأقابل تحدِّيًا مختلفًا عندما قَدِمْتُ إلى الأردن للعمل كمعلمة لغة عربية في مدرسة خاصة، لقد وجدت معظم الطلبة في المدرسة يهربون من حصص اللغة العربية، ويرفضون التحدث باللغة العربية مع أن معظمهم عربي ، هم يفهمون جيدًا ما تقول ، ولكنهم لا يتحدثون إلا باللغة الأجنبية، وينظرون بدونية وازدراء لكل من يتكلم اللغة العربية.
مشكلة كبيرة تجسّدت في كيفية تغيير قناعات طلاب يكرهون تعلم اللغة العربية ويجدونها مملة وصعبة، و هنا بدأت أتساءل…! لماذا يَرفضُ هذا الجيلُ تَعَلّمَ اللغةِ العربيّةِ ..لغةَ الآباءِ والأجدادِ ، أليستْ العربيّةُ هويتَنَا ..عنوانُ وجودِنا .. ورمزُّ عِزّتِنا وكرامتِنا؟ لماذا لا يحدثُ التّسيبُ والهروبُ إلا في حصصِ اللغةِ العربيّةِ ؟؟ ألمْ تُــواكب لغتُنَا العربيّةِ حركةَ النّهضةِ الحضاريّةِ القديمة حتى أصبحتْ لغةً عالميّةً استوعَبَتْ كُلَّ الاختراعاتِ والكتاباتِ؟؟ ألَمْ تَكُنْ لغةُ الضّادِ قادرةً على التّعبيرِ عَنِ العواطفِ والمشاعرِ والأفكارِ والحقائقِ العلميّةِ بفضلِ غِنى مُفرداتِها وتراكيبِها ؟؟ لماذا تُسْتَبعَدُ وتُهَمَشُ وهي إحدى لغاتُ الحضارةِ الإنسانيّةِ ؟ أليستِ اللغـــةُ العربيّـــةُ مِرآة َالأمّةِ العربيّةِ ورمزَّ كيانِها، وعنوانَ وحدتِها وتقدمِـها، ومُسْتودعَ عاداتِها وتقاليــدِها وديوانَ أدبِها ؟! لماذا تَتهدّدُ اللغةُ العربيّةُ في موطنِهــا حتى بِتْنَا نَشعرُ بالغربةِ والاغتراب في وطنِنَا !! لماذا نَشعرُ بالضّعفِ والعجزِ .. و نَحنُ نُدركُ جيدًا القولَ المَشهورَ أنَّكَ: إذا أردتَ أنْ تَمُحو شعبًا فامْحُ لغَتَه ُ؟؟ .
للأسف، يُشَكِّلُ العَالَمُ العَرَبيّ سابِقَةً خطيرة على مستوى العالم في ازدراء لغته؛ وفي دراساتٍ لمنظمة “اليونسكو”، ثَبُتَ أن تحصيل الطلبة عندما يدرسون باللغة الأم أفضل ممن يدرسون بلغة ثانية، ولذلك لم يحقق أيُّ بلدٍ نهضة عندما نبذ اللغة الأم، بل جوهر النهضة هو إحياء اللغة، وهذا ما جعل الشاعر محمود درويش يقول في الصهاينة: ” هم أحيوا لغةً ميتة ، ونحن أمتنا لغة حيّة “.
مشكلة كبيرة واجهتني جعلتني أفكر وأقرأ وأبحث لأبدأ التّغييرَ ، لابُدّ أَنْ أحْدِّثَ تغييرًا في حياةِ طلابيّ… وأنْ أعمل على تَعمِيقَ الاعتزازَ بالهويّـــةِ العربيّــةِ كي يقفوا سَدًّا مَنيعًا أمامَ مُهدِّداتِ الفناءِ من طوفانٍ إعلاميٍّ جَارفٍ وعَولمةٍ صاعقةٍ لِيحافظوا على بقاء اللغة العربية، كان لابد من تحَديدُ أسبابَ عُزوفِ الطلبــةِ عن تعلمِ العربيــّةِ، ووضع حُلول مناسبة لجيل الإنترنت والحاسوب، جيل سيحمل الأمانة ويرسم مستقبل الأمة العربية، وأخذت أطرقُ العديدَ من السّبلِ، لأصلَ في النّهايةِ إلى نجاحٍ لمستُهُ من خلالِ إقبالِ الطلابِ بدافعيةٍ وشوق على تعلمِ وتذوقِ لغتِهم الأم ..اللغةِ العربيّةِ.
وأثناء البحث والاطلاع قرأت عن عِلمٍ جديد يُدَرَّسُ في الغرب يسمى مهارات الحياة، وهو ما يُعْرَفُ الآن بالتنمية البشريّة، لم يكن الإنترنت معروفًا في عام 1994 ، ولم تكن المعلومات متوافرة كاليوم ، مصادر شحيحة تتمثل في الكتب والصحف أوالتلفاز و الإذاعة، أقبلت أنهل من هذه المهارات أتعلمها وأعلمها بشكل فردي رغبة في بناء جيل منتمٍ لأمته، يحترم الآخر، قدراتُه عاليةٌ لاكتسابِ المهاراتِ والمعارفِ الجديــدةِ والتكيفِ السّريـــعِ مَعَ متغيراتِ المجتمعِ، والتّعاملِ بمهارةٍ مع التكنولوجيا، جيلٌ صادقٌ.. مسؤولٌ .. مبادرٌ، يفكر ويبحث ويخترع، يجيد العمل الجماعي ولا يرفض الآخر مهما اختلف معه.
تجربة فريدة و ثريّة أحببت أن أشارككم هذه القصص الواقعية والخبرات التربوية مدعومة بالصور والأسماء لتستفيدوا وتفيدوا ، وصدق رسولنا الكريم في قوله: ( مَا مِنْ صَدَقَةٍ أفْضَلُ مِنْ عِلمٍ يُنْشَرُ) .
عثرات وإخفاقات قادت إلى النجاح أخيرًا بعد أن تجاوزت الخمسين عامًا لأصبح كاتبةً ومُدَرِّبة تعليم تفكير، وبدأت أهتم بالإبداع والابتكار والتفكير خاصة بعد أن لاحظت أن مناهجنا لا تحقق ذلك، مناهج جافة تقود إلى كراهية للغة العربية، كأنهم بذلك يقتلون اللغة ويحكمون عليها بالفناء ومن هنا قررت التفكير بالتغيير وخوض حرب لإبقاء اللغة وتقديمها بطريقة ممتعة وجذابة من خلال دمجها مع مهارات التفكير .
وشرف كبير لي أن أخصَّ شبكة زدني التعليمية بسلسلة من التجارب الشخصية والخبرات في مجال تعليم الإبداع ، تطبيقات لا نظريات ، فالنظريات تملأ الكتب ولكنّ التّطبيقات قليلةً في عالمنا العربي، تعليم الإبداع وكيفية تعلم مهارات التفكير وتعليمها للأبناء هذا ما نحتاج إلى تعلمه حقيقة …فالمعلومات متوفرة في عصر التكنولوجيا والثورة المعلوماتية والطلبة أفضل من الأساتذة في الوصول للمعلومات بسهولة ويسر أما كيفية مواجهة المشاكل في الحياة والتفكير بحلول سريعة ومتعددة لما قد يواجهنا مستقبلًا فهذا ما نطمح إليه ونسعى له من خلال تعليم مختلف متميز.
وسأبدأ في مقالات ( التعليم خارج الصندوق ) بسرد تجاربي الشخصية المتواضعة آملة أن تلهم البعض ، وستكون قصة ابنتي هي أول الغيث، أول قصة سأحدثكم عنها والخطوات التي اتبعتها لتصبح ابنتي ( ندى ) فنانة تنظم المعارض الفنية، و هي عضو الهيئة الإدارية في رابطة الفنانين التشكليين، لها صفحة مشهورة على صفحات التواصل الاجتماعي تقدم من خلالها أجمل اللوحات والرسومات للهواتف الذكية، صفحة يتابعها كل من يقدّر ويتذوق الفنّ في بلادنا العربية، وتذكروا دائمًا الطفل المبدع لم يأت من وادي عبقر الأسطوري وولد ولادة من اللاشيء، وإنما هو طفل نمّينا فيه قدراته ومواهبه وفجرّنا فيه معامل الذكاء لنشكل التفكير الإبداعي للطفل، فالإبداع كائن حيّ لا ينمو عفويًا من تلقاء نفسه ولا يتطور بالاتجاه الذي نطمح إليه ونريده، إلا إذا وفرنا له البيئة الاجتماعية من عوامل التربية ومقوماتها ونفسح له المجال واسعًا لدخول حقل الإبداع , فالبيئة التي نتعاون على توفيرها له تساعدنا على الإبداع وتنمية الموهبة الإبداعية الكامنة وقيادتها نحو الإنتاج الإبداعي والمعرفي، وهذا كله لا يؤتي ثماره إلا من خلال تعلم الإبداع وتعليمه و لولا الإبداع لما شاهدنا هذا الكم من الاختراعات والابتكارات الفريدة، من أناس تميزوا وفكروا خارج الصندوق .. .