خواطر طالبخواطر مغترب في طلب العلم

طالب ومستخدَم

حياتنا التي نشكو من ألمها, وننعتها بعبارات الألم, متجاهلين أنها أيام مباركة, وسبب يأسنا من شرور الأنفس, فننظر للبشر بعيون مختلفة, ونسينا أننا أخوة من أب وأم, ولا فرق بيننا، فإنسانيتنا تجعل القلوب النابضة في الصدور متوحدة, فالإنسان الطبيعي يتشارك في عدد دقات قلبه مع غيره من البشر, فإذا كانت قلوبنا متوحدة فلماذا نحن نصر على أن نعيش عالم الطبقية وعدم الشعور بغيرنا؟

       كم أنت جميل أبا محمد! مستخدَم  جمع الحياة بسنين لا يعرف حقيقة عددها, أب في مدرستي يعيش بين خمسة وعشرين طالب وطالبة هم عدد طلاب مدرستي النائية, وكم لامست أصابعه خصلات شعر بناته وأبناءه مبتسما لطفولتهم المؤذية, وكم وقفتُ على بوابة مدرستي في أثناء الاستراحة وشاهدته يسير بين طلابها يضحك مع الضاحكين, ويقف مستفسرا عن من حمل هم حياته في الطفولة.

    ونفس اليد التي تمسح رؤوس من فرح ومن حزن تتناول أوراق ومخلفات حلويات طفولة أبت نفسهم أن تحملهم مسؤولية المحافظة على ساحات مدرستنا, ولم أسمع منه كلمة عتاب ولا صرخة تعب من إساءة أطفال يعيشون في بيت مدرستهم  بحرية لأن أمهم المناضلة تجمع ما كسرته طفولتهم بفرح الأم لسعادة أبناءها.

      سألته يوما: أبا محمد هؤلاء الطلاب يؤذون المدرسة بعدم اهتمامهم  بنظافتها أليس كذلك؟ فقال في جوابه الذي كنت أنتظر فيه جمل الشكوى من تصرفاتهم, قال :(إنهم أطفال ربنا يوفقهم وينجحهم) فعرفت أنه أب ليس مستخدما  في المدرسة!

     بقيت كلماته تحاور ذاكرتي طويلا ,إنهم أطفال – أطفال – والطفولة مادة خام نحن من نصنع منها زهورا جميلة بعطر سماء الكون ونحن من نجعل منها أشكالا لا فائدة ولا خير منها ونجعلها على جوانب الطرقات, أبى تفكري أن يترك الأمور على حالها, فقلت في نفسي أب مناضل في مدرستنا فلا بد من قتل عقوق الآباء ومد يد العون لهم, فخرجت من ذاكرتي الطويلة المدى فكرة تجمعنا طلابا ومعلمين ومستخدم في غرفة واحدة, مقاعدها واحدة, نجلس بها بشكل مستقيم لا احد يتقدم على الآخر.

    وفي يوم من الأيام ,وأثناء الاستراحة, طلبت من أبي محمد أن لا يتواجد بساحة المدرسة أثناء الاستراحة ,وخرجت أتجول بها وأتناول بواقي ما رمته ايدي طلابنا, وهم ينظرون بدهشة, ما الذي يفعله أستاذنا؟ ولكن صمتهم استمر, واجتمعوا حولي ينظرون ما بيدي؟ فقال أحدهم الذي اتصف بجرأة لماذا تفعل ذلك أستاذنا؟ أين أبا محمد؟ فضحكت وتابعت عملي, ولكن طفولتهم لم تجعلهم يرون شيئا ولا يعرفون سببه, فاستمروا في المسير معي حتى تخلصت مما جمعته في سلة المهملات, وابتسمت من جديد لعلهم يكسرون خوفهم من إعادة السؤال ,ونجحت مرة ثانية وسُألت من نفس الجريء.

     قلت لهم: أتحبونني؟ فخرجت إجابات متخالطة ولكنها متشابهه, كثيرا أستاذ. كثيرا أستاذ! قلت: خلال هذا الأسبوع سأقوم بعمل أبي محمد, فقال أحدهم: مسكين أهو مريض؟ فقلت :لا، ولكن ابنته مريضة وهو ليس بيديه شي يقدمه لها إلا أنه يلجأ لله سبحانه وتعالى لطلب شفائها. “فأين هو الآن؟” سؤال من أحدهم, قلت لهم إنه قد نذر لله ان يقرأ كتابه الكريم طلبا لشفاء ابنته المسكينه.

     توقفت ابتسامات طلابي, ومن كان يتناول الحلوى تجمدت يداه حتى عجزت عن رفع بواقيها الى فمه, وخرجت كلمات بسيطة, مسكين, مسكينة, ياه! ونفس الجريء قال: ولماذا أنت تجمع النفايات أستاذ؟ سؤال كل قصتي حتى أسمعه, قلت لهم أيد تمسك كتاب الله العزيز وتقرأ كلماته, تتوقف حتى تحمل بواقي ما تركتموه على الأرض؟ لا يا أحبائي:سافعل أنا ذلك.

     غادرت جمعتهم ودخلت على غرفة المعلمين, حتى قرع الجرس لبداية الجزء الثاني من يومنا الدراسي, وخرجت لأنظم دخولهم إلى الغرف الصفية, وفجأة ابتسمت دون إدراك, ماذا أرى؟! ساحة لو بحثت عن قصاصة ورق صغيرة لن تجدها فيها! فقلت ما هذا؟ أنا من سيقوم بذلك! من فعلها؟

    نفس الجريء قال: لم يفعلها أحد يا أستاذ, ولكن جميعنا كنا نعتقد أن سلة المهملات هي الساحة ولكن الآن عرفنا أنها على زاويتها. فصمت صمت الخائف من أن يكون هذا اليوم وحيدا عندهم, واستمرت أيام الأسبوع على نفس الشاكلة, ساحات نظيفة, غرف نظيفة, أبو محمد يسير ولا يجد ما يحمله بيده, وكان هناك تحد كبير هو إعلان ان ابنة أبي محمد قد شفيت, وفي اليوم الأول من الأسبوع الجديد وقفت أمامهم أثناء اصطفافهم وقلت: باركوا لأبي محمد لقد شفيت ابنته, والله سبحانه قبل دعائه وتلاوته والحمد لله, وإن أبا محمد يشكركم على وقفتكم لجانبه أثناء معاناته.

      ونفس الجريء قال: أتشكرنا لصحوتنا من غيبوبة طفولة مهملة, لقد علمتنا أن نفكر كثيرا بدروسنا ونسيت أننا وصلنا إلى درجة عالية من التفكر المنطقي, أبو محمد لو كانت ابنته مريضة  لما تواجد بيننا, أبو محمد لم نرى المعاناة على وجهه وكانت ابتسامته أمامنا لا تنقطع, فعرفنا ماذا تريد أستاذنا,فقلت ماذا أردت؟ قال: ستعرف ذلك في نهاية العام, وها هي الأيام تسير والساحة نظيفة والمقاعد مرتبة.

  فقال لي الجريء يوما أثناء سيري مع أبي محمد في الساحة والطلاب حولنا, أستاذ, لقد شفى الله ابنة أبي محمد, فهل زوجته تعاني من المرض أيضا؟ فضحكوا جميعا بصوت عال وأقبلوا على أبي محمد يمدون إليه أيديهم مصافحين, واستمروا في سيرهم وعند ابتعادهم قال نفس الجريء: أبو محمد، الأستاذ يكرهك لأنه قد قال عن ابنتك مريضة, وضحكوا فرد عليهم أبو محمد: ليس لدي أي طفلة. فقالوا: مريضة قبل ان تولد؟ وضحكوا، فقال لي أبو محمد: ألا يستحق هؤلاء الطلاب أن نجتهد من أجلهم؟

                                             معلّم في مدرسة بمدينة المفرق في الأردن

Back to top button