رأي الوالدين

الصدام بين الآباء والأبناء: الجذور والعلاج

بلهفةٍ بالغة وشوقٍ عظيم، يرقب الزوجان وصول المولود الأول. لكن ما إنْ يخرج صاحب الجلالة إلى الوجود حتى تتحول الحياة إلى جحيم لا يطاق!  فالصغير المنتظر شيطانٌ مصوّر يَعيث في البيت الفساد، ويملأ الدنيا ضجيجًا وعويلًا، ويسلب والديه راحة البال! كيف تتحول نعمة الذرية إلى نقمة على الآباء؟!  هل صحيح أن الصغار  عفاريت” أم أن الآباء ليسوا ملائكة؟! كيف تتحول رابطة الأبوة والبنوة إلى صراع يذهب ضحيته الطرفان؟! طب الأطفال النفسي التربوي ينظر إلى هذه المشكلة الخطيرة الشائعة بعين الجد والاهتمام، لمعرفة أسبابها ووضع أسس العلاج لها.

ميلاد الصراع

حين يتوقع الوالدان وصول المولود الأول، تكبر أحلامهما وأمانيهما حول الوليد، وينسجان خيوط مستقبله ويرسمان نهج حياته من قبل حتى أن يخرج الصغير إلى نور الحياة!  فإذا جاء المولود ذكرًا، فيجب إعداده للتاج والعُرْس.  وإذا جاء المولود أنثى، فيجب إعدادها لتكون ” وَلاَّدة بنت المُسْـتَكْفي ” زمانها!

ولا ضير على الوالدين في التمادي في الأحلام، فتلك فطرة طبيعية تحفز الآباء على حسن السهر على الأبناء. ولكن آفة أحلام الإنسان إذا تمادى فيها أنها تصبغ سلوكه وتهيمن عليه، بحيث تؤدي كثيرًا إلى الصـدام مع الواقـع. فما إنْ ينمو الصغير ويصل إلى الشهر الثامن عشر من عمـره، حين يبدأ في الحركة النشيطة والتعلم، حتى تنهال عليه الأوامر من كل حَدَب وصوب، وفي كل وقت وحين!

فالصغير المسكين الذي بدأ لتوّه يَدبّ على الأرض بعد أنْ كان يحبو عليها، والذي بدأ – مستعينًا بقدرته على الحركة – في استكشاف بيئته بجميع حواسه، بعد أن كان يستكشفها بسمعه وبصره، يفاجأ بالمحظورات والممنوعات! لا تقترب من كذا.. لا تلمس كذا.. لا تفعل كذا… إلى آخر قائمة الممنوعات!

فإذا كبر الطفل شهورًا أخرى، وزادت قدرته على الحركة والكلام زادت قائمة الممنوعات والمحظورات! إذْ لا يليق بطفل يقوم والداه بإعداده للتاج والعرس أن يُسْقِط الطعام من فمه، أو أن يصيح وهو جالس على المائدة، أو أن ينثر الطعام من صحفته على ثيابه!  ولا يليق بطفلة يجرى إعدادها لأن تكون”ولّادة ” زمانها، أن تضحك على رأس جدها الصلعاء، أو أن تقذف دمية لا تعجبها وقـد أهديت إليها في التوّ، ولا أن تعبث بشارب أبيها وهو يحملها ليداعبها!

بتعبير آخر فإن الوالدين يعاملان الصغير كبالغ عاقل مكتمل النضج، ويطلبان منه التصـرف على النحـو اللائق بالشـخصية التي صنعاهـا لـه من أحلامهمـا. ومن هنا يولد الصراع! وهو صراع ناشئ من صدام التوقعات مع الواقع. فمن المخطئ ومن المصيب؟!

بوادر العلاج

قليل من الآباء يذكر كيف كان “عفريتًا” في طفولته! وأقل من هؤلاء من يسمح لصغاره بتقمص الدور الشيطاني الذي لعبه مئات المرات في سني حياته الأولى! والغالبية من الآباء تتوقع من الصغار التصرف بحكمة الكبار ورزانة الشيوخ ونبل الأمراء!

قد يُفهم من الكـلام السـابق أن الأطفـال ملائكة مَحْضٌ، وأن الآباء زبانية جهنم!  والحقيقة أن دوافع الآباء نبيلة، وتصرفات الصغار بريئة.  وصراع الآباء والأبناء ليس إلا صدامًا بين تلك الدوافع وتلك التصرفات. ومرة أخرى فإن فض النزاع يتوقف على فهم الآباء للطفولة ومراحلها المختلفة، وما يمكن توقعه من الصغير في مراحل نموه المختلفة.

لذا تأتي الخطوة الأولى لحل صراع الآباء والأبناء من الوالدين، وذلك بإدراك معنى الطفولة والنزول إلى مفهومها الواقعي، وليس بمطالبة الصغار بالارتفاع إلى مستوى أحلام وأماني آبائهم. وهذه النظرة الواقعية إلى عالم الصغار كفيلة بتغيير الموقف تغييرًا جذريًا. فالصغير نبتة نامية، من حقها استكشاف بيئتها والعالم من حولها، في حرية فطرية لا تعرف قيود الكبار!  ثم إن الصغير كائن بريء لا يتقن التمثيل بَعْدُ ولا يجيد فنّ ارتداء الأقنعة، لذلك لا يجب أن تفرض عليه قيود “التمثيل الاجتماعي” التي يتقنها الكبار ويسمونها ” إتيكيت “، وإنما يجب أن تترك له حرية التعبير البريء، مطلقةً من كل قيد.

من جهة أخرى، وإقرارًا للحق، فإن للصغار شيطنتهم وتصرفاتهم التي تذهب بعقول الكبار!  وحين ينظر طب الأطفال النفسي إلى شيطنة الصغار، فإنه يجد لها مبررات كثيرة. على أن أهم مبرر – أو دافع – وراء شيطنة الصغار هو جذب الاهتمام. ولعل أكثر نوبات غضب الصغار وصراخهم راجعة إلى عدم اهتمام الوالدين أو أحدهما بهم. فالصغير في حاجة إلى اهتمام طول الوقت، وإلى مداعبة وملاطفة معظم الوقت. ولا تسمح له سنُّهُ الصغيرة باستيعاب حجم المسئوليات المنوطة بالكبار.

زر الذهاب إلى الأعلى