الحلقات المفقودة في الشبكة الافتراضيّة
سؤال مهم جدًا بل فائق القيمة والأهمية، فمعظم الآباء والأمهات لا يكاد يمر عليهم يوم إلا وهم يتساءلون: هل لدينا محتوى رقمي يدعمنا في بناء الإنسان الصالح، أم أن المحتوى العربي الرقمي لا يلبي الطموحات؟
بداية علينا أن نعترف أن المحتوى العربي الرقمي هو مرآة عاكسة إلى حد كبير للمستوى الثقافي والفكري للعرب وبمقدار رقي الفكر وجودته بمقدار ما سينعكس ذلك على المحتوى الرقم،. الإنترنت في شقها العربي هي الشبكة التي تخبر العرب عن حالهم وعن طبيعة الرابطة التي تربطهم بها: هل هي رابطة قائمة على أسس واهية أم قوية أم غير ذلك؟!!
في النشرة الإلكترونية التابعة لمؤسسة الفكر العربي (أفق) وفي العدد 326 وتحت عنوان:المحتوى الرقمي العربي: مرآة عاكسة للواقع؟ نقرأ أن 69%من مجموع العرب المرتادين للشبكة الإلكترونية يتابعون الأغاني وأفلام الفيديو والكليبات وأشباهها من المواد الترفيهية . وبناء على هذه النتيجة نقول إن الناشئ الصغير يتأثر سلبا أو إيجابا بسلوك أبويه على الشبكة العنكبوتية. فإن كان الأب على سبيل المثال متابعا للأغاني الهابطة فالطفل سوف يلاحظ ذلك وسوف يتأثربذلك دون شك. هذه الحقيقة الواضحة شديدة الوضوح تجعلنا نصل لنتيجة معروفة وهي أن المحتوى العربي الرقمي على الشبكة لا يرتقي لمستوى طموح المربين،فهو محتوى ضعيف كما أن سلوك الكبار يجب أن يتسم بالرشد، وبقدر عال من المسؤولية . فما تتابعه أيها الأب على الانترنت يلحظه ولدك وهو يراقبك بعفوية تامة وبدافع كبير من الحب والإعجاب، فإن كنت تتابع موادا ذت قيمة علمية وأخلاقية وأدبية لا شك أنه سيتأثر بذلك وسوف يحب ما تحب. أما أن كنت تتابع ما هو مشين أو مخل بالأدب فإن كل كلماتك عن الأدب والحياء كقيم سلوكية سوف تتبخر من سمع ابنك وابنتك وهما يراقبانك بصمت ويرون بأعينهم أن الأدب الذي تدلهما عليه لا يحظر في سلوكك، بل إن سلوكك على الشبكة يذهب في الاتجاه المخالف لأقوالك!!
ما هو قائم ومتحقق من متابعة 69%من المشاهدة العربية لفيديوهات أغاني وكليبات وأفلام يؤكد أن على الكبار أن يعيدوا حساباتهم من جديد وبدلا من المواعظ اللفظية والخطب العصماء التي يكررونها على مسامع الأبناء عليهم أن ينضجوا ويرشدوا ويحسنوا اختيارما يشاهدونه ويقرؤونه.
من جهة تالية يستلزم الحديث عن علاقة العرب بالإنترنت مناقشة طبيعة المفردات والكلمات واللغة المستخدمة التي يتم تداولها على نطاق واسع عبر شبكة الانترنت المعربة. بالطبع وكانعكاس لما سلف ذكره تعد اللغة العربية هنا لغة حائرة تم تجاوزها وإسقاط الكثير من هيبتها على مائدة التداول اليومي فوق الصفحة الحاسوبية البيضاء. اللهجة العامية متواجدة وبقوة، والصياغة يغلب عليها الركاكة ولا ترقى لمستوى الكتابة الصحيحة باللغة العربية الفصيحة إلا لدى شريحة محددة من القراء. كنوع من الاستظراف أو الاستلطاف وأحيانا كنوع من التودد والتقارب يلجأ كثيرمن مرتادي الشبكة للتعبيرعن أفكارهم بلغة عامية ضعيفة. الأغرب من هذا هو قبول بعض المثقفين وحتى من أصحاب الدرجات العلمية أن يدونوا أفكارهم بالعامية ما يفاقم المشكلة ويضعها في إطار أكبر!!
قد يمرر الباحث التربوي على كره منه سلوك بعض الآباء ممن لا يمتهنون نقل المعرفة والتواصل معها كوظيفة ثابتة، ولكن أنى للباحث أن يتقبل كل هذا اللغط المدون بلهجة عامية ركيكة من قبل شخص يحمل درجات علمية رفيعه؟! هنا يحدث الارتباك لا أقول للناشئة الذين كثر أمامهم المكتوب بالعامية فحسب وإنما أيضا مع أهل التربية وأصحاب الفكر من حملة الأقلام الذين لا يستسيغون لحامل الدرجة العلمية أن تكون العامية أداته لنقل أفكاره. إن الصفحات المتوفرة على الشبكة كتويتر أوفيس بوك مفتوحة للعامة ويقرأها الجميع الصغار مع الكبار وهنا تأتي الصدمة التربوية من الجانب اللغوي هذه المرة !!
إذ كيف يمكن أن نعزز علاقة الناشئة الجدد باللغة العربية ونحفزهم على أن يكتبوا ويتحدثوا بلغة عربية سليمة بينما يختار كهول في الخمسين والستين من أعمارهم من المدججين بالدرجات العلمية أن يتحادثوا عبر الشبكة بلهجة عامية ضعيفة؟!!
هذا السؤال مشروع وعرضه وتحليله والبحث له عن إجابة شافية أوعن فرصة ليجد طريقه في العقول الراشدة أمرلا بد منه.
اللغة ولا شك وعاء يستوعب الأفكار ويقوم بتوصيلها للآخرين فإذا كان الوعاء ضعيفا فكيف سيتحمل أفكارا قوية ؟!
نعم ،إن الفكرة القوية تحتاج لمفردات لغوية أصيلة وصحيحة تعبر عنها وكلما كانت المفردة فصيحة وصحيحة في البناء والتركيب كلما استطاعت أن تحمل أفكارا تستحق القراءة والنقل.
قد يقول قائل إن الصفحات الشخصية في تويتر والفيس بوك وغيرها هي صفحات اجتماعية لا أكثر هدفها الرئيس التعارف بين الناس وتبادل الآراء في أجواء ودية؟!! والإجابة الحاضرة هي أن الغاية لا تبرر الوسيلة. نعم ها نحن ذا نستدعي مبدأ حضاريا أصيلا هنا، فالغاية البريئة لا تبرر كل هذا الإضرار باللغة العربية التي تم سحبها وتغييبها لصالح لهجات عامية أقل ما يقال عنها أنها لا ترقى لتكون بديلا للغة هي أم لغات العالم وأرقاها.
إن الحاجة قائمة أيها العرب المبحرون في الانترنت إلى إعادة مراجعة الذات وتحمل المسؤوليات الأخلاقية والعلمية واللغوية وكل العناصر المرتبطة بالهوية تجاه أجيال جديدة تبحث لها عن بوصلة أخلاقية ومعرفية وتفتش لها عن نموذج صالح. وكلما كان النموذج القائم حيا حاضرا متمثلا لمفردات الحضارة ومقوماتها كلما سهل على الأجيال الجديدة أن تشق طريقها بسلاسة وبعبور آمن .
كاتبة وباحثة في قضايا التربية والإعلام