بمناسبة إلحاق جامعة القرويين بوزارة الأوقاف:الحاجة إلى تحرير الشأن الديني من قبضة السلطة بدل احتكاره
بموجب الظهير الملكي الجديد الصادر يوم 26 يونيو بالجريدة الرسمية للملكة، والخاص بإعادة تنظيم جامعة القرويين، فإن جامعة القرويين ستصبح تابعة لوزارة الأوقاف بدلاً من وزارة التعليم العالي، ويشير الظهير الملكي المكون من 29 مادة المنظم لسير جامعة القرويين التي أصبحت قطبًا تتجمع فيه أغلب مؤسسات التعليم الديني حيث تصبح من الجزء المحفوظ للملك بعد أصبحت تحت رعايته وتحت وصاية الدولة من خلال وزير الأوقاف الذي يترأس مجلس الجامعة والذي سيكون مكونًا من أربعة من العلماء ورئيس المجلس العلمي الأعلى ومدراء المعاهد والمؤسسات وممثلين عن الطلبة، ويعتبر هذا الإلحاق لجامعة القرويين وإعادة تنظيمها في “الرغبة الملكية في أن تستعيد أقدم مؤسسة للتعليم العالي الإسلامي في العالم إشعاعها المعرفي، ودورها الريادي الذي اضطلعت به منذ نشأتها، وجعلها مؤسسة مرجعًا في التكوين المتخصص والرصين في علوم الدين، وتاريخ الفكر، والحضارة الإسلامية” ولذلك تم استحداث عدة مؤسسات ومعاهد لهذا الأمر وأخرى كانت قائمة منها دار الحديث الحسنية ومؤسسة محمد السادس للدراسات القرآنية، بينما أصبحت المؤسسات التي كانت تابعة للقرويين سابقًا ملحة بالمؤسسات الجامعة التي توجد بمجال تلك الكليات الأربع حسبما أفادت مصادر تحدثت للإعلام المغربي، ويتعلق الأمر بأربع كليات، كلية الشريعة بفاس وأصول الدين بتطوان، وكلية اللغة العربية بمراكش إضافة لكلية الشريعة بمدينة أكادير؛ ويطرح إلحاق جامعة القرويين بوزارة الأوقاف مجموعة من الأسئلة والاعتراضات.
إن إلحاق جامعة القرويين بوزارة الأوقاف كما قد يبدو للكثير بأن فيه تقوية للتعليم الديني وهيكلة له بحيث يصبح أكثر إنتاجية وعطاء، وأن ذلك تعبير عن رغبة من أعلى سلطة في البلاد على الاعتناء بالشأن الديني وما يتعلم به من علوم ومعارف ومؤسسات تحفظ للمغرب مجتمعًا ودولة بعده الديني والحضاري، فرغم كل ذلك فإنه لا يمكن إغفال مخاوف وقلاقل من وراء ذلك، وهي متعلقة باحتكار الشأن الديني من طرف الدولة وسعيًا للتحكم فيه.
1) البعد الاحتكاري للشأن الديني ومخاطره
إن المسعى الاحتكاري للشأن الديني لم يكن وليد اللحظة حين إلحاق جامعة القرويين بوزارة الأوقاف، وإنما انطلق مع هيكلة الحقل الديني سنة 2004 في سياق المحكوم بنزعة الحرب على الإرهاب الذي كان انعكاسًا لسياسات دولية وداخلية متعلقة بما بتغير السياسات الدولية والوطنية بعد تفجيرات 11 شتنبر 2001 وفي المغرب حيث سيعاد تنظيم الحقل الديني بعد أحداث 16 ماي 2003 بالدار البيضاء، منذ ذلك الحين ومع تلك التفاعلات الداخلية والخارجية لم يعد الشأن الديني شأنًا وطنيًا للدول والمجتمعات العربية، وإنما أصبح خاضعًا لإملاءات القوى الكبرى وكذلك لإعادة ترتيب الشؤون الداخلية لتلك الدولة بموقع الشأن الديني وأنموذجه وكذا الفاعلين الدينيين الآخرين الذي يزاحمون الدولة والسلطة على تدبير الشأن الديني وخصوصًا الحركات الإسلامية.
لم يعد الشأن الديني بعد القرار الأخير خاضعًا لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في بعده العملي وحسب وفيما له صلة بالممارسة (الخطابة الوعظ والإرشاد القيمين الدينيين…) وجزء من بيت الطاعة المحفوظ للملك باعتباره حامي حمى الملة والدين والمحكوم بقاعدة “إمارة المؤمنين”، وهي النغمة التي ظل وزير الأوقاف الحالي والذي جيئ به لهيكلة الحقل الديني على نمط معين، وما فيها من أضرار لها صلة بنمط التفسير للقضايا الدينية حيث يصبح الدين مجرد أداة فاقد للاستقلالية ومنزوع التأثير في القضايا الاجتماعية لاعتبار النمط التقليدي الذي يحكمه وتحجيم دور العلماء والفاعلين الدينيين، والآن مما قد يكون سلبيًا في الشأن الديني بعد أن تم إحكام السيطرة على الجانب العملي والممارسة فلم يعد الخطباء والوعاظ يتحدثون خارج النمط الرسمي إلا من رحم ربي، نجد إلحاق الجانب العلمي التعليمي وإفراغ مؤسسة من محتواها ومضمونها وتحويل خريجيها وعلمائها إلى جزء من السند الذي يستقوي به البعد التقليدي السلطاني للحكم وكذا للثقافة الدينية وصلتها بالقضايا الاجتماعية.
كان جامع القرويين الذي أصبح تابعًا لجامعة القرويين في مرحلته التعليمية النهائية، تاريخيًا مؤسسة لها سلطة رمزية وشبه مستقلة، وكذلك كان علماؤها في قضايا المجتمع والسياسة، وجل التعليم الديني في موارده كان يعتمد على الأوقاف ومواردها التي كانت تأتي من الأوقاف المحيطة بها، وكانت الاستقلالية المالية وتنظيمها من طرف المجتمع هي ما يمنح العلماء في حينه موقفًا مستقلاً ومتمايزًا عن السلطة، حيث يصل الأمر حد منازعة السلطان في شرعية الحكم، إذا رأوا فيه نوعًا من الانحراف والتذبذب في الموقف كما حصل مع أحدهم في بداية القرن 20، حيث نزع العلماء البيعة عن أحدهم ومنحوها لآخر، وتلك سلطة نادرة كان يمارسها العلماء بالمغرب والذين احتضنتهم القرويين كمعلمة تاريخية تعليمية وحضارية كبرى مر منها كبار العلماء، وذلك ما جعل الاستعمار الفرنسي يتخوف بداية من القرويين لموقفها وموقف علمائها المناهض للاستعمار، فيعمل على إذلال علمائها وتحجيم وظيفة القرويين ومحاصرتها كما يحكي العلامة عبد الله كنون وغيره، وبعد الاستعمار تم النظر إلى العلماء نظرة ريبة من بعض مواقفهم التي كانت معلنة ضد الكثير من السياسات والمواقف الرسمية، وهو ما دفع السلطة التي كانت تنزع نحو الاستبداد إلى تهميش القرويين وتعطيل مؤسسة العلماء “رابطة علماء المغرب”، وإلحاق كل ذلك تدريجيًا للخضوع تحت سيطرة السلطة وخدمة لها، إلى أن وصلنا إلى هيكلة الحقل الديني الذي انطلق سنة 2004 مهتمًا بجانب الممارسة، ليصبح الآن له بعد تعليمي يخدم الرؤية العامة الرسمية.
إن إلحاق القرويين بالأوقاف من خلال ما سلف في حقيقة الأمر، هو اغتيال لأحد أدوارها المهمة واحتكار فج للشأن الديني في كل أبعاده بما يخدم السلطة ومواقفها، حتى و إن كان ظهر بالنسبة للبعض فيما حصل منح الجانب الديني العناية الرسمية حتى يواكب التطور ويحظى بمجموعة من الفرص والإمكانات التي كانت معدومة سابقًا؛ فالانتماء الطبيعي للمؤسسات الدينية التعليمية والمساجد يكون للمجتمع، فهو يرعاها ماديًا وترعاه معنويًا وروحيًا وتحفظ كيانه المعنوي، وينعكس ذلك على المستوى الرسمي حيث يكون العلماء وسطاء أحيانًا وناقدين للتوجهات الرسمية أحيان أخرى، ومدافعين عن القيم بكل استقلالية ودون انتظار الضوء الأخضر من الجهات الرسمية، فهم يخدمون قضايا المجتمع الذي ينتسبون إليه لا مجرد مبررين للدولة ومباركين لسياساتها، وقد رأينا كم واعظًا وخطيبًا وعالمًا تعرض للعزل عن أداء مهمة الخطابة بسبب نقد مهرجان “موازين” أو بعض الممارسات المنافية للقيم الدينية والتي تتم تحت حوار الثقافات وتحت الرعاية السامية كذلك، وآخر تم عزله من رئاسة المجلس العلمي لانتقاده استقدام مغني لا يخفي شذوذه الجنسي لمهرجان “موازين”، والحوادث على ذلك كثيرة.
إن الشأن الديني أحد أبرز المجالات التي تغذي الاستبداد لما تصبح أداة في يد السلطة عوض الاستقلال عنها، كما أنه من المجالات المتستر على طرق تسييرها وتدبيرها، وعوض أن نرى تحرير الشأن الديني من قبضة السلطة نرى مزيدًا من إلحاقه واستتباعه بالسلطة واحتكاره من طرفها، ومسألة استقلالية العلماء ونقد نهج استتباع العلماء للمؤسسات الرسمية قام به علماء كبار ولا يزال، وفي مقدمتهم الدكتور أحمد “الريسوني” الذي قال يومًا “الحاكم حاكم على الناس والعالم حاكم على الحاكم وحاكم على الناس” في استعارة منه لأحد أقوال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في إحيائه.
2) الحاجة للمزج بين التخصصات وإحداث قناوة الاتصال بينها بدل الانفصال.
كان الأولى بجامعة القرويين أن تكون قطبًا تعليميًا كبيرًا تابعًا لوزارة التعليم العالي ومنفتحًا على كل تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية والقانونية والعلوم الدقيقة بدل إلحاقها بوزارة الأوقاف وجعلها مقتصرة على العلوم الدينية والشرعية، إن انفتاح جامعة القرويين على الكثير من التخصصات فيه نوع من إحداث التكامل بين العلوم والمعارف، بحيث ستستفيد العلوم الشرعية ودارسيها من التخصصات الأخرى القريبة منها ويتم إحداث قنوات تواصل من خلالها يتم الاطلاع على مختلف المناهج ومستجدات العلم في مختلف التخصصات، فيكون العقل الديني مواكب للكثير من التطورات والمناهج بما يسمح له بتجديد أدواته ومنطقه البحثي فيستفيد من التخصصات التي تسمح بالاطلاع أكثر على إشكالات المجتمع ونمط تفكيره، وكذا يجدد في نظرته ومقاربته للكثير من القضايا، فيعاين عن قرب مختلف المقاربات الأخرى وبالأخص العلوم الاجتماعية والقانونية، بل إنه يمتد إلى تخصصات من قبيل الطب وعلوم أخرى.
إن التفكير العلمي لا ينشط إلا في مناخ العلم وشروطه وبعيدًا عن الرقابة والوصاية، وفي بيئة متسمة بالتنوع في القضايا والمقاربات والاستشكالات، وإذا أردنا حقيقة أن نمنح العقل الفقهي والشرعي مواكبة التجديد وعدم الانكفاء على ذاته، فإنه ينبغي إحداث جسور بين مختلف التخصصات وإطلاع كل المعارف على بعضها البعض، بعيدًا عن الجزر التي تعيش فيها كل التخصصات الآن، فلا يستفيد العقل الشرعي من مستجدات المناهج وكذا المقاربات والإشكالات، فيبقى رهين قرون مضت في أحيان كثيرة، أو تبقى التخصصات العلمية الأخرى والعلوم الإنسانية مفصولة عن الذات معاكسة لقيمها ومضمونها الروحي، فالإبقاء على الجزر بين التخصصات هو إبقاء على على التقليد في العلوم الدينية والشرعية، والانفصال عن الذات وقيمها بالنسبة للتخصصات الأخرى، فتكون علومًا فاقدة للبعد الغائي الذي يخدم الإنسان عوض السيطرة عليه وتدميره لما يغيب البعد الأخلاقي من العلوم.