خواطر باحثة علمية

بُرج السُكر

ربما من أجمل الأمور التي توفر لأم تدرس من الجامعة في الغربة، هي الحضانة والروضة، وكما يكتبون من عمر ( صفر – ٣ سنوات للحضانة ) ومن عمر ( ٣ – ٦ سنوات ) للروضة.

السعر محدد رمزي لكل الطلاب وفي متناول الجميع، المربيات كلهن مؤهلات علميًا وتربويًا ليكونوا أهلًا ومحل ثقة في العناية بالأطفال وإعطاء الأم دائمًا الطمأنينة الكاملة، أن الطفل بأيدي أمينة فإهتمي بدورسك ولا تقلقي.

ما جعلني أكتب عن الروضة تحديدًا إنني تذكرت أن إبني الأول كان في عمر الأربعة سنوات عندما بدأت الماجستير، وكان كل مرة يبهرني بمعلومات يتعلمها بطريقة مبسطة وعن طريق اللعب وليس حشوًا للمعلومات، فالألمان في مرحلة الروضة لا توجد لديهم مناهج دراسية وقاعات صفية وإنهاك الطفولة ذات العظم الرقيق في الجلوس والاستماع لشرح المعلمة والرجوع إلى البيت يحملون هم الواجبات وتعلم اللغات.

فالمربيات كن دائمًا يشددن على أهمية أن يعيش الطفل طفولته بكافة حذافيرها وأنه ما زال مبكرًا جدًا أن نقحمه في ميدان الدروس والواجبات وإنهاك خلاياه العقلية قبل أوانها.

تعليم الأطفال في الروضات هو عن طريق اللعب والغناء والرسم والأعمال اليدوية والرحلات. وكنت في كل مرة أقف مذهولة من طريقة شرح للمعلومات ببساطة تامة خصوصًا من إبني الأول وكنت أتذكر في كل مرة ملاحظة البروفيسور إن في رأسي كثير من المعلومات التي لا أستطيع ربطها، وطفلي لديه طريقة في ربط كل شيء بالطبيعة.

في يوم رآني إبني وأنا أشرب مشروب غازي، فنظر إلي وهز رأسه قائلاً “هذه غير صحية”.

فقلت له: “أعلم!”

قال لي عندها: “هل تعلمين إنك أكلتي الآن ٨٤  مكعب سكر مثل هذا” وأشار إلى علبة السكر!

لا أنكر إني غصصت بما شربت وقلت له مندهشة: “٨٤ مكعب !!”

قال لي: “نعم، أنا عملت اليوم برج السكر جانب زجاجة المشروب الغازي مثل هذه”

سألته: “أي برج؟”

قال موضحًا: “غدًا سأريكِ مشروع قمنا بعمله في مجموعتنا عن المأكولات المضرة التي تحتوي الكثير من السكر”!!

فعلاً في اليوم الثاني عندما أوصلته الروضة شاهدت طاولة كبيرة في زاوية القاعة التي فيها إبني وأدهشني ما رأيت، لقد وضعوا كل شيء من أغلفة لأنواع شكولاته معروفة وعلب اللبن المحلى وعصائر وغيرها، كل شيء يقف جانبه برج بعدد مكعبات السكر الذي يحتويه، وأخذ إبني يخبرني عن كل نوع وكم مكعب سكر فيه وإنه قرر عدم أكله ثانية …

ربما توالت المفاجأت من طرق تعليم الأطفال عن طريق اللعب وكم دخلت في نقاشات عقيمة مع إناس في البلد يؤمنون أن من كان في عمر إبني يستطيع القراءة والكتابة والحساب وحفظ كذا وكذا، ولكن إبني ليس جاهلاً!!!

فهو  يستطيع الحساب لكن بكل حب عن طريق اللعب ويستطيع أن يفكر في أمور الطبيعة المختلفة بعقلية بسيطة وبطرق ربط ممتعة، كأن يحدثني عن دودة الأرض المسكينة التي تصنع ثقوبًا في الأرض لتتنفس التربة، ويستطيع أن يفسر الليل والنهار بقصة جميلة، ويتعلم فن الحوار والاستماع عندما يجلس كل صباح في دائرة ينتظر دوره وزميله في إنهاء كلامه ولا يقاطعه، يتعلم حل مشاكله مع الأطفال بطريقة لبقة لا تؤثر على نفسيته ونفسية الطفل الآخر وبدون تدخل الكبار.

يتعلم حب الطبيعة والاهتمام بنظافتها وكم يؤلمها أن نلقي القمامة وخصوًصا تلك التي لا تدور، يتعلم أن لا يعود البط والأوز على النهر بأخذ الطعام فإنها بذلك لن تتكيف على الطبيعة، وخصوصًا إذا هاجرت ولم تجد أحد يطعمها، يتعلم اللعب والاستمتاع باللعب وأنه يوجد فائز وخاسر دائمًا.

يتعلم أهمية العمل الجماعي في أي نشاط وإنه دائمًا هو العمل القوي الصامد، يتعلم مراقبة الطبيعة في كافة أطوارها فكل شيء يستهويه كأشكال الحجارة المختلفة ومخاريط الصنوبر والعيدان والحلزونات وأوراق الشجر الملونة في الخريف…

أمور كثيرة تعلمها أولادي في عمر الروضة، جمعوا فيها كنوز تعليمية باللعب والحب والمرح دون أن يفقدوا بريق طفولتهم، وجعلهم يدخلون المرحلة المدرسية في عمر الست سنوات بشغف واشتياق.

علياء كيوان

طالبة دكتوراة في الأحياء الجزيئية وناشطة اجتماعية. مقيمة في ألمانيا، أم لثلاث أطفال، أعمل في بحوث السرطان، هوايتي الكتابة والقراءة، همي هو النهوض بالمرأة العربية في المجتمعات الأوروبية ويكون لها بصمة ومكانة، أسست مجلة المرأة العربية في ألمانيا وهي أول مجلة إلكترونية ناطقة باللغة العربية في ألمانيا تهتم بشؤون المرأة والأسرة العربية بشكل عام.
زر الذهاب إلى الأعلى