فكرة

ألبرت أينشتين .. فيلسوف العلوم (1)

قاد تفكير ألبرت أينشتين الفلسفي إلى ظهور أعماله الفيزيائية بشكل مختلف؟ هل – كما اعتقد هو – كان لها تأثير في جعله عالمًا فيزيائيًّا أفضل؟

في العصر الحالي غالبًا لا تؤدي فلسفة العلوم أي دور ملحوظ في البحث الفيزيائي أو حتى في تكوين شخصية الباحثين؛ فما يتعلمه الطلاب غالبًا عن القضايا الفلسفية يكون عن طريق الصدفة، أو نظرًا لنضجهم الفكري مع التقدم في العمر.

فعادةً ما يلتقط الطالب الأفكار والآراء العلمية في قاعة المحاضرات، وفي المعمل، وربما بالتعاون مع أساتذته ومحاضريه، ولكن التفكير في الأفكار الفلسفية يعتبر أمرًا نادرًا، وحتى أكثر ندرة في التعليم الأكاديمي والمنهجي.

والأسوأ من ذلك أنه أصبح الاهتمام العلني بفلسفة العلوم غالبًا ما يُعَدُّ خطأً اجتماعيًا فادحًا، ولكن لنكونَ منصفين هناك بعض الباحثين والفيزيائين الذين ما زالوا يفكروا بطريقة فلسفية، ولكن تظل المقاربة الفلسفية للفيزياء لا تُعتبر القاعدة هنا ولكنها الاستثناء.

ولكن لم تكن الأمور على هذا الحال قديمًا في علم الفيزياء.

بعيدًا عن إطلاق الأحكام المُسبقة

في ديسمبر من العام 1944 حظي روبرت ثورنتون (Robert Thornton) بوظيفة جديدة كمدرس للفيزياء في جامعة بورتوريكو، وقد كان خريجًا لتوه من جامعة منيسوتا الأمريكية، حيث كتب هناك رسالة الدكتوراه الخاصة به بعنوان “دراسة في منطق ومنهجية الفيزياء“، حيث أراد دمج فلسفة العلوم في عملية التعليم الخاصة بالفيزياء التمهيدية، فأرسل خطابًا لألبرت أينشتين (Albert Einstein) طلبًا لمساعدته في إقناع زملائه في الجامعة بانتهاج هذه الفرضية.

فكان رد ألبرت أينشتين عليه الآتي “أتفق معك تمامًا على أهمية القيمة التعليمية للمنهجية، والتاريخ، وفلسفة العلوم؛ فكثير من الأشخاص اليوم – حتى العلماء منهم – يبدون لي كشخصٍ رأى آلاف الأشجار لكنه لم يرى في حياته الغابة.“

فإن المعرفة بالخلفية التاريخية والفلسفية للعلوم أعطته استقلالية وتحررًا عن إطلاق الأحكام المُسبقة والتحيز لرأي أو فكرة ما، والذي تميز بها عن أبناء جيله الذين عانوا من هذه المشكلة.

حيث إن هذه الاستقلالية – الناتجة عن البصيرة الفلسفية التي تمتع بها ألبرت أينشتين – هي العلامة المميزة والفارقة بين مجرد عالمٍ متخصص وبين عالمٍ باحثٍ عن الحقيقة بكل جوارحه.

وقد ظل ألبرت أينشتين يردد هذا الكلام على مدار ثلاثين عامًا، فقد تعلم من خبراته السابقة – التي اكتسبها من وجوده ضمن الطليعة في الثورات الفيزيائية أوائل القرن العشرين – أن زرع عادات فلسفية في العقل سوف تجعل منه عالمًا فيزيائيًا أفضل بكل تأكيد.

وفي العام 1916 بعد أن أكمل نظرية النسبية العامة، كان قد ناقش ألبرت أينشتين علاقة الفلسفة بالفيزياء أثناء تأبين الفيزيائي والفيلسوف إرنست ماخ (Ernst Mach)، حيث قال:

“كيف لعالمٍ فيزيائي موهوبٌ بالفطرة أن يقلق نفسه بنظريات المعرفة؟ أليس لديه عملٌ أكثرُ أهميةً ليقوم به في مجال تخصصه؟ هذا التساؤل دائمًا ما يردده زملائي، ولكني لا أستطيع مشاركتهم هذا الرأي.

فعندما أفكر في طلابي الموهوبين – الذين يميزون أنفسهم عن طريق ابتعادهم عن الأحكام المُسبقة لا سرعة بديهتهم فقط – يمكنني أن أجزم بأنهم يمتلكون اهتمامًا كبيرًا بنظريات المعرفة.

فهم يتناقشوا – بسعادة – في أهداف وطرق العلم، وقد أظهروا بشكل قاطع – من خلال الدفاع المستميت عن آرائهم – أن هذه المعرفة مهمةً جدًّا لهم.“

فيجب عليك ملاحظة أن فائدة الفلسفة في دراسة الفيزياء ليست نوعًا من العقيدة، ولكنها استقلال عن إصدار الأحكام المُسبقة؛ حيث إن استخدام هذه الفلسفة العقلية التي ناقشها أينشتين تُشجِّع التفكير النقدي تجاه الأفكار المطروحة أمامك.

بدايات معرفة ألبرت أينشتين بالفلسفة

كان ألبرت أينشتين نموذجًا بين أبناء جيله من العلماء في انخراطه المبكر بالفلسفة، فعندما كان عمره 16 عامًا فقط كان قد قرأ بالفعل الأعمال الثلاثة الكاملة للفيلسوف الألماني إمانويل كانط (Immanuel Kant) وهي نقد المنطق المجرد، ونقد المنطق العملي، ونقد القدرة على الحكم.

وقد قام بإعادة قراءتها مجددًا عند حضوره محاضرات البروفيسور أوجست ستادلر عن كانط في المعهد السويسري الفيدرالي للفنون في زيوريخ.

وذلك بالإضافة لقراءته العديد من أعمال الفلاسفة والعلماء الآخرين مثل ماخ، وشوبنهاور، ونيوتين وغيرهم الكثير.

حيث كان تأثره بتعلم الفلسفة عميقًا للدرجة التي أثر بها على ممارسته للفيزياء، ولكن اهتمامه بفلسفة العلوم ذهب بعيدًا عن ذلك. ففي العام 1930 أصبح عضوًا فعالًا في تطوير مفهوم فلسفة العلم؛ ليصبح مصطلحًا قائمًا بذاته، حيث تطور دوره بصورة كبيرة من خلال علاقاته المهنية والشخصية بأهم فلاسفة حقبته الزمنية.

الفلسفة في فيزياء أينشتين

كيف قاد تفكير ألبرت أينتشين الفلسفي إلى ظهور أعماله الفيزيائية بشكل مختلف؟ هل – كما اعتقد هو – كان لها تأثير في جعله عالمًا فيزيائيًّا أفضل؟

حسنًا دعنا نجب على هذه التساؤلات، حيث إن معظم من قرؤوا ورقته البحثية الخاصة بالنظرية النسبية الخاصة – عام 1905 – وجدوا أن بها تأثيرًا فلسفيًا واضحًا.

حيث بدأت الورقة بطرح تساؤل فلسفي حول التباين في التفسير التقليدي القديم للحث الكهرومغناطيسي، وتستمر في عرض باقي الأفكار بصورة فلسفية أيضًا كنسبية الأحداث المتباعدة والمتقاربة بالنسبة للمراقب، وعلاقتها بالمتغيرات والثوابت كسرعة موجات الضوء؛ فإذا افترضنا أن حدثًا ما يقع في أحد جوانب الكون، وتم تسجيل وقت هذا الحدث من قِبل مراقب ما، فهل يقع هذا الحدث بالنسبة لمراقب آخر في الوقت نفسه؟

فتناول ألبرت أينشتين لهذه النظريات والفرضيات كان تناولًا فلسفيًّا، وقد غير مجرى التاريخ العلمي في الفيزياء وأثبت خطأ نظريات نيوتن، وجاليلو، وكيبلر  – التي كانت بمثابة عقائد راسخة في ذلك الوقت – في تفسير ظواهر الأجسام والأحداث في الإطار الكوني العملاق.

فقد خلقت النظرية النسبية مجالًا جديدًا في العلوم (الفيزياء الحديثة)، ولكن لا تقل أهميتها الفلسفية عن أهميتها العلمية بأي حالٍ من الأحوال؛ حيث غيرت من مفاهيم كان يعتبرها الإنسان مُطلقة ولا تقبل الجدال كالفيزياء الكلاسيكية ومفهومنا عن الزمان والمكان، فهي تُعد واحدة من أهم النظريات العلمية والفلسفية في العصر الحديث على الإطلاق.

لم يأتِ بحث ألبرت أينشتين عن حقيقة الكون من فراغ، فقد كان نتاجًا لقراءاته الفلسفية، واهتمامه الشديد بفلسفة العلوم، وتأثره بمن سبقوه من الفلاسفة والعلماء؛ حيث إن توصله لهذه النظريات أثبت أن الفلسفة جزء أصيل من العلوم.

وإليك بعض مقولات ألبرت أينشتين الفلسفية الخالدة:

“حاول ألا تبحث عن النجاح، ولكن ابحث عن القيم“.

“الإنسان جزء من الكل والذي أطلقنا عليه الكون، هو جزء محدود من الزمان والمكان. حيث يختبر نفسه وأفكاره ومشاعره بصورة منفصلة عن البقية كنوع من الوهم البصري النابع من وعيه الداخلي.

هذا الوهم هو سجننا الخاص؛ ما يقيدنا لرغباتنا وعواطفنا لعدد قليل من الأشخاص الأقرب لنا، ولكن مهمتنا الحقيقية في الحياة هي التحرر من هذا السجن عن طريق توسيع دائرة تعاطفنا لتشمل كل الكائنات الحية وكذلك الطبيعة في صورتها الجميلة“.

“المعرفة محدودة، لكن الخيال يطوف العالم أجمع“.

“مقياس الذكاء هو القدرة على صنع التغيير“.

زر الذهاب إلى الأعلى