رؤية مثقف

التعليم من أجل المواطنة و التنمية المستدامة

إن ممارسة العقل ذو أهمية في الفكر الإسلامي الذي لعب دورًا هامًا في تطوير جميع أنواع المعرفة. فقد أشار المفكر محمد اقبال  في كتابه: “إعادة بناء الفكر الديني في الإسلام” (Reconstruction of Religious Thought in Islam)، إلى أن الإجتهاد كان مبدأ حيويًا في جسم الإسلام. و قال إنه تم التركيز على مبادئ الإستقراء العلمي في القرآن، الذي يُسلط الضوء على أهمية المراقبة و التجريب في التوصل إلى استنتاجات معينة. و يمكن الإشارة أيضًا إلى أن الفقهاء و المفسرين المسلمين استخدموا طريقة التحليل اللغوي في تحليل النص وفقه الواقع والموازنات وفقه المقاصد. 

من المهم أن نتذكر أن أول كلمة نزلت عام ٦١٠ م على النبي محمد ﷺ كانت ” إقرأ ” و ذلك في الآية الكريمة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (سورة العلق، آية ١). 

و هذا يدل على التركيز المبكِّر على فعل القراءة و التفكير و التعلم و العمل ضمن النظرة الإسلامية. و تم التمييز بين المتعلمين و غير المتعلمين في القرآن الكريم، و ذلك في قول الله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (سورة الزمر، آية ٩). و يعتبر السعي من أجل العلم  واجب ديني.

إلى جانب ذلك، فقد حض النبي محمد (صلى الله عليه و سلم) على السعي وراء العلم و التعامل معه بشكل هادف و ذلك تأكيدًا على ضرورته الإسلام، فقال صلى الله عليه و سلم في الحديث الشريف: (طلب العلم فريضة على كل مسلم). 

شيَّدَت المدارس الفكرية السائدة في مجال التعليم الحواجز بين التخصصات (العلوم الطبيعية و العلوم الإنسانية و الفيزيائية). منع هذا بدوره الإنسان من تطوير فهم و تَصوُّر شاملين للأنظمة التي تدعم التعليم التحولي و التنمية المستدامة.

لا بُد من إعادة التفكير بأنظِمتِنا التعليمية؛ التي أهملت فلسفة التعليم من أجل المواطنة و التنمية المستدامة.

و لعل ما يشهده العالم العربي من موجات التطرف الفكري و أعتماد الأجتهادات الفقهية الشاذة هو نتاج تراجع التعليم المستنير الذي يحتفل بالتنوع و يفهم فقه تعدد الصواب و المجتمع المدني و الحكم الرشيد.

جسَّدت مقولة: “التعلم هو مدينة، أحد أبوابها هو الذاكرة  والآخر هو الفهم” نهج التعلم. و سادت المناظرات كوسيلة تعليمية في دراسة القانون، و هي وسيلة تربوية نشأت في وقت مبكر جدًا في الوسط الإسلامي.

بدأ في منتصف القرن الثامن خلال العصر العباسي نشوء إهتمام قوي لدراسة العالم القديم، لاسيما مصادره اليونانية، و لكن أيضًا إلى حد أقل الفارسية و الهندى، جعلت الصحوة الفكرية التي نتجت من هذا الإهتمام، هذا العصر لامعًا خصوصًا في تدوين التاريخ الإسلامي و العالمي، و نتيجة للتوسع السياسي و الإقليمي للإسلام خارج شبه الجزيرة العربية، أصبح المسلمون ورثة لأقدم و أكثر الناس ثقافة من البلدان التي فتحوها أو قابلوها. أما على صعيد التمويل فلقد موِّلَت المدرسة من الوقف، و هو مؤسسة خيرية، و شكل من أشكال التنظيم المؤسسي للمجتمع المدني. وقد نقله الغرب من العالم الإسلامي في نهاية القرن الحادي عشر. 

يمكن للمرء من خلال التدقيق في حياة جيل من صحابة النبي محمد (صلى الله عليه و سلم)، أن يرى بسهولة هدف التربية الإسلامية في الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية و الإرتقاء بها، و إلى توسيع و تعميق المعرفة في جميع الجوانب المتعلقة بالحياة الإسلامية.

حدث العديد من الأحداث في العالم الإسلامي خلال هذه الفترة من الركود مثل: إغلاق باب الإجتهاد، على الرغم من أن الإجتهاد يقود عملية تشكيل الفكر و إصدار الأحكام في المجتمع الإسلامي، و ينشط إمكانيات الفهم الإسلامي بين الناس والتعايش المشترك وعمارة الأرض والعمران الاجتماعي. 

و التعلُم و التعليم مناط به حل الإشكال بين الفلسفة و الدين و العلاقة بين “العقل” و “النقل” (القرآن الكريم و الوحي)، و قد تم وصف المشهد على أن الأزمة بين العقل و الدين هي نفس الأزمة التي بدأت بها معظم الصِراعات السياسية التي ظهرت في الفكر الليبرالي الحديث مثل العلمانية (فصل الدين عن الدولة) حيث  تدعي العلمانية أنها هي الأداة لتحويل الدولة القومية في نواحي الفكر و القانون و التعليم و البيروقراطية. لكن التعليم التحولي هو الذي يطور نماذج تربوية معاصرة و أصيلة و مبنية على فكرة “التوحيد” بين العلم و الفن و بين المادة و الروح و بين المرأة و الرجل و بين العلم و الدين و بين الدنيا و الآخرة.

و قد ساهمت الأفكار الغربية في تعميق الفجوة الفكرية و حالة الأغتراب الفكري في العالم الإسلامي و نتَجَ عن تفكك الوحدة الإسلامية منذ عام ١٨٥٠غياب و ركود في هياكل الحكم و فقدان مفهوم الهوية الجامعة و المواطنة و المشروع العربي الملهم لتوظيف طاقات الشباب في مشروع النهضة و الإصلاح و التنوير.

و في الوقت الحاضر، يُلاحظ التربويون المسلمون، الذين ينظرون إلى الإسلام بإعتباره وسيلة للحياة و النظام الذي يستوعب جميع جوانب الحياة، خسارة الأمة الإسلامية  لمفاهيمها و فكرها الإسلامي، و يرجع ذلك حسب تعبيرهم الى أن الجيل الحاضر لم يتلق أي تصور إسلامي أو أي وسيلة مُنتجة للتفكير من أسلافهم. 

حيث أن للمؤسسات التعليمية حُريّة فريدة من نوعها لرعاية و إلهام و تطوير أفكار جديدة، و حرية المساهمة في خلق معارف جديدة، و للجامعات دور فريد في تطوير قدرات عقلية متعددة لدى الطلاب، و ذلك لتمكينهم من النقد و البِناء و العمل مع وجود درجة عالية من التفكير و الإستقلالية و تقرير المصير و ينبغي على التعليم تطوير كفاءات الطلاب التي تمكنهم من التعامل مع الشك و القيم المتضاربة و بِناء الواقع.

إن العامل الرئيسي للتّسبب في زوال أي مجتمع أو مؤسسة هو خنق الإبداعات و توحيد التفكير و تضييق الخيارات و الحَد من التفكير المستقل و من العزيمة. 

يُنظَر إلى التعليم بوصفه وسيلة لتطوير مواطنة و أفراد مجتمع يسعون إلى تحقيق الذات، و يبحثون عن المعنى، و يطوِّرون قدراتهم الذاتية، و يخلقون الحلول بالمشاركة، من وجهة النظر هذه، لا يمكن إنشاء مجتمع مستدام دون المشاركة الكاملة و تحقيق الديمقراطية لجميع أفراد المجتمع. يمكننا أن نتصور مجتمعًا شفافًا جدًا، يشارك بنشاط و بشكل حاسم في حل المشكلات و إتخاذ القرارات و يثمِّن و يحترم طرق التفكير البديلة. 

يتطلب تعليم المواطنة و الاستدامة تحوُّل في النماذج الذهنية التقليدية، هذا يعني أنه يجب على المُعلمين إعتبار أنفسهم كمتعلمين، و يشمل تعليم الاستدامة أيضًا النقاش حول القيم و الأخلاق، إن إدراج جوانب الاستدامة في التعليم هو ضرورة وطنية لفهم الترابط و التكامل و التوازن بين مكونات النظام البيئي. 

تتطلب الاستدامة تحوّلات و إنعكاسات هامة في عملية تدريس الفرد، تتطلب أيضًا تقوية المتعلمين من خلال تمكينهم من العمل على حل القضايا الحقيقية التي حددوها بأنفسهم. و تتطلب أيضًا تقدير و إحترام الخلافات و التنوع و تعزيز ثقافة الحوار و المساءلة و النزاهة. و فيما يلي ملخص للتحوُّلات المطلوبة في التوجه التربوي. بإختصار، لابد من التحول:  

• من التعلم الاستهلاكي إلى التعلم الاستكشافي.

• من عملية تعليمية محورها المعلم إلى عملية تعليمية محورها المتعلم.

• من التعلم الموجَّه بالمحتوى إلى التعلم الموجه بإحتياجات الذات.

• من التعلم المؤسسي القائم على الموظفين إلى التعلم مع و من خلال المحيط الخارجي.

• من التركيز على الأهداف الإدراكية فقط إلى التركيز على الأهداف الوجدانية و المتعلقة بالمهارة أيضًا.

تحتاج سياسات و استراتيجيات التعليم من أجل تنمية المواطنة إلى تطوير مفهوم المؤسسات المتعلمة بحيث تولد معرفة و تقنيات ذات صلة محليًا و ملائمة ثقافيًا، و تتجلى الإرشادات التوجيهية و المعايير لأخلاقيات البيئة و الإستدامة في ميثاق الأرض و رسالة عمران و الميثاق الاجتماعي لمؤسسة الفكر العربي الذي تدعو إلى التحرك  بطرق تحترم الأرض و الحياة بكل ما فيها من تنوع، و تهتم بحياة المجتمع بتفاهم و رحمة و حُب، و تبني مجتمعات ديمقراطية تكون عادلة و مستدامة و تشاركية و سلمية.

خلاصة القول نحن بحاجة أيضًا إلى تعليم من أجل التنوع الثقافي و المواطنة التي تحتفل بالتنوع و تضيف قيمة للحياة و تحترم الكرامة الإنسانية و السلم الاجتماعي و حقوق الإنسان.

باحث و مفكر عربي

عودة الجيوسي

بروفيسور عودة الجيوسي مستشار و باحث في مجال المياه والأستدامة والتعليم والتقنية والأبداع. عمل نائب رئيس في الجمعية العلمية الملكية في الأردن (2011-2013). عمل مديرًا إقليميًا للإتحاد الدولي لحماية الطبيعة (2004-2011). عمل في حقل التعليم الهندسي و الإستشارات (1994-2004). عمل عميدًا للبحث العلمي في جامعة العلوم التطبيقية. عمل مدير أكاديمي لبرنامج الماجستير للإدارة في جامعة باكينغهام -لندن - بريطانيا. عمل مستشارًا دوليًا مع هيئة الأمم و البنك الدولي و وكالة التعاون الألماني في مجال المياه و البيئة و التنمية. ألف عدة كتب وأبحاث منشورة في دوريات عالمية.
زر الذهاب إلى الأعلى