تعليم النحو بين روح الشيخ ودرجات المدرسة – الجزء السادس –
مما يُعَلِّقُ الفتى اليافعَ بالعلم – نحوًا كان أو فقهًا أو غيرَ ذلك – أن يرى فلسفته تتَكشَّف له، ويرى نفسَه يَفهم ظاهرةً لُغويةً يعيش بها، أو كونيةً يعيش فيها، أو شرعية يسعى إليها، ولهذا كان الشيخ يُدَرِّس معنى الرُّتبة حينما يُعَرِّفُ العلم قبل أن يَشرَع في تفاصيله، فقد استقر عند المشايخ مبادئ عشرة على المريد معرفتها عن كل علم يريد الشروع فيه، في قوة دُسْتُورٍ تربوي معرفي يُرَمِّم الخلفيات الْمُهْتَرِئَة، ويُكَمِّل القَبْلِيَّات الضرورية؛ لتهيئة الداخل إلى سَاحِ عِلْمٍ ما، هذه المبادئ هي:
– حَدُّ العلم، أي: تعريفه بحيث يتصورُه المريدُ تصورًا إجماليًّا قبل الدخول فيه.
– موضوع العلم، أي: المادة التي يبحث فيها هذا العلم من جهة بحثية معينة.
– ثمرة العلم، أي: ما الذي سيستفيده المريد حين يدرُس هذا العلم.
– فَضْل العلم، أي: ما شَرَفُ هذا العلم على مستوى التبجيل النفسي القلبي.
– نِسْبَةُ العلم، أي: مَنْ أبوه في العلوم؟ بمعنى إلى أيِّ دائرةٍ ينتمي هذا العلم.
– واضعُ العلم، أي: مَن أوَّل مَن كَتَب فيه كتابًا، وما تاريخ التأليف فيه بعموم؛ لما في عرض التاريخ من جذب للمريد، وتعليق له بسير العظماء.
– اسم العلم، أي: ما أسماء هذا العلم؟ ولماذا سميت هكذا؟
– استمداد العلم، أي: ما المنهجية البحثية التي يستند إليها العلم في بناء أحكامه.
– حُكْمُ الشَّارِع، أي: ما حكم الله تعالى في دراسة هذا العلم.
– مسائل العلم، أي: ما الخريطة الجامعة التي توضح أبواب هذا العلم؛ ليحصل التصور الإجمالي.
ولا يصعب على الشيخ شرح ذلك لمريده مهما صَغُرتْ سِنُّه، فللمشايخ طرائقُ متعددةٌ في توصيل المعلومة، وقد نفرد لتلك الطرائق مقالًا آخر قريبًا – إن شاء الله – والذي يَعنِينا هنا أن عددًا كبيرًا من العلماء نَظَم هذه المبادئ العشرة في أبيات ليسهل استذكارها واستيعابها، لا ليسهل حفظها فحَسْب.
قال بعض العلماء:
مَبَادِئ أَيِّ عِلمٍ كَانَ حَدُّ وَمَوضُوعٌ وغَايَةُ مُسْتَمَدُّ
مَسَائِلُ نِسْبَةٌ وَاسمٌ وَحُكْمُ وفَضْلٌ وَاضِعٌ عَشْرٌ تُعَدُّ
وقال غيره:
مَنْ رَامَ فَنًّا فَلْيُقَدِّمْ أَوَّلَا عِلْمًا بِحَدٍّ ثُمَّ مَوْضُوعٍ تَلَا
وَوَاضِعٌ وَنِسْبَةٌ وَمَا اسْتُمِدّْمِنْهُ وَفَضْلُهُ وَحُكْمٌ يُعْتَمَدّْ
وَاسْمٌ وَمَا أَفَادَ وَالْمَسَائِلْ فَتِلْكَ عَشْرٌ لِلْمُنَى وَسَائِلْ
وَبَعْضُهُمْ مِنْهَا عَلَى الْبَعْضِ اقْتَصَرْوَا مَنْ يَكُنْ يَدْرِي جَمِيعَهَا انْتَصَرْ
وقال غيرهما:
إِنَّ مَبَادِئ كُلِّ فِنٍّ عَشَرَةْ الْحَدُّ وَالْمَوْضُوعُ ثُمَّ الثَّمَرَةْ
وَفَضْلُهُ وَنِسْبَةٌ وَالْوَاضِعْ وَالِاسْمُ الِاسْتِمْدَادُ حُكْمُ الشَّارِعْ
مَسَائِلٌ وَالْبَعْضُ بِالْبَعْضِ اكْتَفَى وَمَنْ دَرَى الْجَمِيعَ حَازَ الشَّرَفَا
وبَقِيَ من الجزء السَّالِف أن نعرف لماذا تُرفَعُ بعضُ الفضلات:
–
الفضلة لا تُرفع بنفسها قَطّ، ولكن العربَ رفعَتْها تَبعًا لمن يَستَحِق الرفعَ، كأن تأتي الفَضْلَةُ نعتًا لمنعوتٍ مرفوع، كقولك: جاء زيدٌ الكريمُ، وهذا لا يتنافى مع اختصاص الرفعِ بالعُمَد دون الفضلات؛ لأن العمدة مرفوعٌ بالأصالة، فهو مستحِقٌّ لذلك، أما الفَضْلَة التابعة، فإنما ترفع كرامةً للعُمْدَة فقط، فيَظَلُّ الرفعُ الذي على الفضلة للعمدة أيضًا، لأنَّ العمدةَ هي السببُ فيه لا الفَضْلَة.
ومثال ذلك أن يزورَكَ صديقٌ عظيمٌ المقام ومعه رجل غريب لا تعرفه، فأنت تكرم الرجل العظيم وترفع منزلتَه وتُضَيِّفُه خيرَ ضيافة؛ لأنه يستحق ذلك، أما الغريب فيجلس مع ضيفك، ويصيبُ من الطعام الذي قدمْتَهُ لضيفِكَ معه، وذلك تَبَعًا لا أصالةً، إذ لو جاءك الغريب وحده لما احْتَفَلْتَ له كلَّ هذا الاحتفال، وما أنزلته كل هذه المنزلة الرفيعة.