صوت المعلم

تَعْلِيمُ الْفَلْسَفَةِ – الْجُزْءُ الثَّالِثُ

انْحِرَافَانِ فِي تَدْرِيسِ الْفَلْسَفَةِ

شهد عالَمُنا العربيُّ المسلم دعواتٍ وصيحاتٍ كثيرةَ تُعْلِي من شأن كلِّ ما هو علميٌّ –بالمفهوم الأجنبيِّ للكلمة- وتحتقر ما هو أدبيٌّ –ومنه مادة الفلسفة وَفْقًا لِمُقرَّراتنا التعليمية غالبًا- وهذه الزَّخَمَة[1] دَفَعَتِ العمليةَ التعليمية فيما يخصُّ تدريسَ الفلسفةِ إلى أحد جانبينِ، كلاهما خطأ، أما الأول فكان غيابَ الفلسفةِ عن المشهد  التعليمي، وأما الآخر فكان طغيانَها عليه.

ولْنَقِفْ أوَّلًا مع كلِّ انحرافٍ على حِدَةٍ:

الانحراف الأول: غيابُ الفلسفةِ عن الْمَشهدِ التعليميِّ سببًا وأثرًا:

وهو جانب يوجدُ أكثر ما يوجد في الدراسة المدرسية الرسمية، أي: في مراحل التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي.

وقد أتى هذا الانحرافُ حين ضعُفَ المستوى العلميُّ للمُدرِّس؛ فصار لا يستوعب فلسفة العلم الذي يدرِّسُه، ولا يستزيد من المعرفة بما هو متاح بعد أن تخرج بمقبولٍ أو جيد.

وأقصى ما في وسعه لو بذل وسعه أن يَفهم ما في الكتاب المدرسيِّ، ويؤديَه، وأُهمِلَ المخلوقُ الْمسكينُ الذي يسميه التربويون كتابَ الْمُعلِّم؛ فأدى مجموع ذلك إلى أن صار المدرس يدرس الفروع فقط، من غير أن يَصِلَ بينها وبين القواعِدِ الكلية والغاياتِ البعيدة والأفكار العامَّة.

ولو أسعَفَتْه القريحةُ وأراد التفلسفَ تَبَرَّعَ بربْطِ الفروع من عند نفسِه بما لا يَمُتُّ لها من الأصول بِصِلَةٍ، وهو أسوأُ في تكوين العقليةِ المتلقيةِ التي تتعرض للموضوع للمرة الأولى.

وحُرِمَ الطالبُ من أن يتساءل “لماذا؟” و”ما الجامع بين هذين؟” و”ما الفارق بين هذين؟” وزَجَرَهُ مدرِّسُه.

هنا –عند هذه النقطة تحديدًا- صار التعليم بلا فلسفةٍ، وهذا يكافِئُ تعليمًا بلا غايَةٍ؛ لأن الغاية انحصرَتْ في التطبيق الجزئي جدًّا الذي هو تقريبًا حلُّ الامتحان، وعندها يفهم الطالب أن وظيفة هذه المواد الدراسية -التي هي الصورة الوحيدة للعلوم في عينيه- وظيفةٌ واحدةٌ، وهي أن يحفَظَهَا عن ظَهْرِ قَلْبٍ، ليُؤَدِّيَ الامتحان فيها، من غير أن يَعِيَ ولو إجماليًّا كيفَ تركَّبَتِ الصورةُ الكبيرةُ.

ويغلب على ظن الفتى أن هذه الوظيفة تنتهي مع الامتحان بالضبط؛ سواءً بسواءٍ، وهذا العامل يؤدِّي إلى كثير من السلوكيات التي نشهدُها حولَ المدارس بعد الامتحانات وقُبَيْلَها، من عدم العناية بالكتاب المدرسي –الذي كان يُفترض أن يكون كتابَ علمٍ- والتفريطِ في هذه الكتب المدرسيةِ بحيث يعني ضياعُها التخلصَ الْمُريحَ من لوازمِ عامٍ مضى، وذهنيًّا التخلص من ركام الجزئيات التي أديناها على وجهِهَا، والحمد لله، وربما ينجو من هذه الكتب كتاب أو اثنان، بحسَب العلاقة العاطفية التي جمعتِ الأستاذ بالطالبِ، لا بحسَب العلاقة العاطفية التي جمعَتِ الطالب بالعلم وعيًا ودراية وإلمامًا ومحاولاتٍ للإكمالِ الذي جُبِلَ عليه بفطرته.

وأما من جهةِ النتائجِ فقد خلَّف هذا الاضْمِحْلالُ الفلسفيُّ عيبَيْنِ لا تخطِئُهُمَا العَينُ:

العيب الأول: كان فقرًا مُدْقِعًا في المحتوى الفكري النظريِّ لدى المتخرج في الثانوية.

والعيب الآخر: كان ضعفًا في المهارات الفلسفية في العقل، وهي المسؤولةُ عن ممارسة التجريد واستخراج الكليات في الحياة العملية بعد ذلك، أو الحكم على صواب التجريدات وخطئها، وتكوينِ موقفٍ نقدِيٍّ مُتَّزِنٍ من الادعاءات المجانية الكلية التي سيتبرع بها الآخرونَ على الطريق، وهي التي تكون بباطلها غالبًا الجزءَ الأكبرَ من تصوُّرِنا عن الأشياء والعالَم والكَوْنِ، بل عن الله تعالى والدارِ الآخرة، ومفهوم الحياة نفسِه.

الِادِّعَاءَاتُ الْمَجَّانِيَّةُ[2] وَطُوفَانُ الْفَلْسَفَةِ

وكما كان غيابُ الفلسفة في المحل الذي ينبغي أن تكون فيه ضارًّا، كان حضورُها وإغراقُها للإنسان الأجْوَف ضارًّا أيضًا، وإليك التفصيل:

الانحرافُ الآخر: طغيانُ الفلسفةِ على المشهدِ التعليميِّ سببًا وأثرًا:

تخرج الطالبُ في نظام الثانوية العامة سالفِ الذكر، ومِن بعده تخرج في نظامٍ جامعيٍّ يضطر المحاضر إلى اختصار المقرَّر لضيق الوقت، وإلغاء فصول من الكتاب، أي: إلغاء فصول من العلم نفسِه، مما دَمَّر أيَّ تفكيرٍ فلسفي كان من الممكن نَبَاتُه في عقل الطالب؛ فتحول الطالب الجامعي إلى حامل فلسفات الأساتذة التي لا يعرف مدى اتفاقِهِ هو نفسُه معها؛ إذ صار يروِي فلسفاتهم -في حال كان ممنْ يذاكر جيدًا- بضمير الغائب “يقول فلان… ويجيبُه فلان…”.

وحتى لا يبدو المشهد هزليًّا تمامَ الهزليَّة يأتيه في بعض الامتحانات سؤال بعنوان: اذكر رأيك في كذا. وهذه إما كناية عن موصوف، بمعنى: اذكر رأي الدكتور الذي درَّس لك هذا الموضوع، وإما بمعنى تكلم كما تحب فهذا سؤال لأجامِلَك به في بعض الدرجات، أما أن يَستعمل الطالبُ مهاراتِه الفلسفيةَ لتظهرَ نتائجُها، ويقوِّم ذلك الأستاذ فَلَا.

هذه المرة ليس المانع ضعف الأستاذ، فكثير من أساتذة الجامعة عندهم العلم وفلسفة العلم معًا، لكن يتعاون على إحداثِ هذا الضررِ عددٌ من الأسبابِ، من بينها عددُ طلابِ الصف الواحد الذي يصل إلى المئات بل الآلاف في بعض الكليات[3]، حتى الدروس الخاصة في مرحلة الجامعة -وإن كانت أقلَّ عددًا- تكون من أجل تبسيط وتحفيظ الكلام الذي يخصُّ الامتحان في كثير من الأحيان؛ ليرى بذلك الطالبُ الذي يأخذ درسًا خصوصِيًّا تميِيزَ الدرسِ الخصوصيِّ له على زميلِه الذي لم يأخذ ذلك الدرسَ!

نعم، ليس هذا في كل الكليات ولا في كل الجامعات، لكنه يمثل نسبة مئوية لا يمكن تجاوزها في تحليل بقايا التفكير الفلسفي في مجتمعِ ما بعد الجامعة.

وناتج ذلك أن يَمضِيَ الشابُّ خِلْوًّا من مقومات التحليل والتركيب، رائيًا الحياةَ قِطعًا متجاورة بلا روابط ولا غايات بعيدة وأفكار كلية، ابتداءً من العلم الذي يحمل شهادة فيه ومن ثَمَّ في الحياة كلِّها، وهنا يظهر له الفرسانُ الذين سيتبرعون له بأكوام من الفلسفات الجاهزة التي توجه سلوكه في التعامل مع الله والكون وكلِّ شيء.

هؤلاء الفرسان تختلف أسماؤهم، فأحيانًا هم مدرِّبُو التنمية البشرية الذين يبدؤون من كيفية صناعةِ الأصدقاء إلى كيفية قضاء الوقت مع زوجتك والاستمتاع بالحياة، والْمِسكينُ لا درايةَ له بالأصول الفلسفية للأفكار التي يتبرعون بها له، ولا الجذورِ الأجنبية لها، ولا مدى موافقتها لهوية هذه الأمة ودينها، وكفى بهذه الغَرَارَة مُعِينًا على كلِّ باطلٍ.

ومن هؤلاء الفرسان دعاةُ النظريات المقاصدية الشرعية، التي تخلبُ لُبَّ الشبابِ ببريق كأنه يتقاطع مع ما ينادي به الغرب من حقوق الإنسان، وما يتواءَم مع الفطرة السوية بزعمِهم، فيخرُج الشابُّ متشرِّبًا نظريةَ ذلك المفكِّر أو ذاكَ الفقيه، مع جهل تامٍّ بالأحكام الجزئية التي أفنى المفكِّر والفقيه فيها عمُرَيهما، فلو قابل الشابَّ حكمٌ فقهي، فكَّر فيه من حيث: حفظ الدين والنَّفْس والعَقْل والعِرْض والمال، وكرر مقولات مفادها: الشريعة رحمةٌ كلُّها، عدلٌ كلُّها، جمال كلها.. وهو يقيس على رحمة وعدل وجمال أجنبي مما أُشْرِبَه في قلبه من ثقافته الفيلمية والفكرية الْمُدَجَّنَة، ثم يُفتي في دينِ الله.

ولو أن المسألة عَرَضت للدكتور محمد سليم العوا أو الدكتور يوسف القرضاوي أو الدكتور محمد عمارة أو غيرِهم من العلماء لربما توقَّفَ فيها أيامًا يبحث في الجزئيات، ولو أفتى أحدهم ثم وُوجه بنصوص جزئية تعارضه لتأملَّ وتفكَّر، بخلاف الشاب الذي عُبِّئَ كلامًا كليًّا فكريًّا جعلَه يفتي فورًا بإحساسه الْمُلْهَم! وينظر إلى ما توهمه لُبَّ الإسلام، ولا ينشغل ما توهمه قشورًا وتفاصيلَ متغيرة!

فأي شيء أثمره تدريس المقاصد للشباب في الدورات والدروس العامة إذن سوى الاستهانةِ بالنصوص الجزئية في الشريعة، وإهدارِ جُهدِ العلماء السابقين في البحث الشرعي، وحالةٍ من الجَهْل المركَّب[4]، قد صدق عليهم قولُ أحد المتخرجين في الجامعة بعد ذلك بزمان طويلٍ حينما صار عالِمًا حقيقيًّا، وأدرك فساد النظام الجامعي؛ فقال: دخلتُ كلية الشريعةِ جاهلًا، وتخرجْتُ منها جاهلًا مغرورًا!

وقائمة هؤلاء الفرسان طويلة لا تحصى؛ وحسنُ الظن بهم يقضي بأن نقول فيهم: اجتهدوا فأخطؤوا وفَحُشَ خطؤهم، ونقول أيضًا عنهم: إنهم قومٌ قدَّمُوا جُرعةً زائدة من الفلسفة لم تلاقِ قدْرًا كافيًا من الجزئيات عند الشباب؛ فأثمرتْ ضلالًا بعيدًا سحيقًا.

[1] الزَّخَمَة: الرائحة الكريهة، كما في لسان العرب وتاج العروس، ويستخدمها الناس خطأ بمعنى رواج أو صدى.

[2] راقني استعمال سعود المولى مترجم كتاب “الإسلام الحنبلي” لجورج مقدسي للمركب الوصفي: “الادعاءات المجانية” فاستعرته منه، ولا أدري ما الأصل الفرنسي الذي كان لهذا المركب.

[3] ككلية التجارة مثلًا بجامعة القاهرة.

[4] الجهل المركب: مصطلح علمي معناه: حالة يكون فيها المرء جاهلا بمسألة، مع أنه يجهل أنه جاهل بالمسألة، فتراه يتكلم فيها كأنها يعلمها، ولا يقول إلا خطأ، والجهل البسيط خير منه؛ لأنه صاحبه لا يتبجح على الناس؛ لأنه يعلم أنه جاهل بالمسألة، فيقول لا أدري.

د.حاتم الأنصاري

مشتغل بعلوم العربية والإسلام بحثًا وتدريسًا.
زر الذهاب إلى الأعلى