تَعْلِيمُ الْكِتَابَةِ بَيْنَ قُبْحِ الْحَرْفِ الْحَاسُوبِيِّ وجَمَالِ الْخَطِّ الْعَرَبِيِّ
أَيُمِدُّ خطُّ الحاسوب عَيْنَ الطفل الصغير بنموذج كتابي يُرَبِّي ذوقَه أم يَهدِمُه؟!
هذا سؤال يحتاج إلى بَرْهَنَة على مشروعِيَّته قبل الكلام على إجابته عند أكثرِ الآباء بل القائمين على العملية التعليمية في الحضانات والمرحلة الابتدائية في العالم العربي المسلم؛ فهْو لا يخطر على البال أصلا؛ لأنهم يفكرون في أسئلة أخرى، من قبيل: كيف نُعَلِّم براعِمَنا اللغات الأجنبية؟ وكيف نعلمهم الحساب باللغات الأجنبية مع شيء عابر من حروف العربية؟
هذا، والسؤال حين يكون ضَالًّا منقطِعًا عن هَدْيِ السماء تأتيه إجاباتٌ ضالَّة منقطعةٌ عن السماء أيضًا، ولو رَقَّعْنَا الحضانة بكلمة “تحفيظ القرآن الكريم” مع بقاء اسمها على الألسنة “KG” بَدَلًا من حضانة أو روضة!
المشكلة أن السادة القائمين على هذه المراحل –رضي الله عنهم- لم يدركوا بَعْدُ أن مساحيق التجميل –مهما كثرَتْ وتعددَتْ- لا تستطيع أن تخلق من العجوز القبيحةِ فتاةً جميلةً ولا تجعل خِلْقَةَ الحَلَّاق كخِلْقَةِ الخَلَّاق، ولا تزوِّج قرآنَ المؤمنين من لغات الأعاجم في عقلِ طفلٍ لم يعرف بَعْد من هو؟ وما أمَّتُه؟ وما دينُه؟ ومن ربُّه؟ وما لغتُه؟
ومن هنا ترتكب مدرِّسة الحضانة عددًا من الجرائم في حقِّ الأمة ممثَّلَةً في صورة أطفالها؛ منها:
- إدخال الألفبائية الأجنبية على عقلِ طفلٍ عربي لم ينقضِ عقدُه الأول في الحياة بَعْدُ، ولم يحسنِ البيانَ بلغةِ أمَّتِه عن نفسه.
- تشويه الألفبائية العربية حال تعليمها للطفل عندما تتحول الزاي أو الزاء العربِيَّتَيْنِ إلى “زين” عامية، والثاء إلى “سِهْ” والطاء إلى “تَهْ” مع حِزْمَةٍ هوائية أكبر من التَّاء قليلا،أو تتحول الضاد إلى “ظاد” ويتغير مخرج العين إلى تقعير شديد حَلْقِي، فضلًا عن تحريف كثير من مخارج الأصوات العربية عن مواضعها.
- عندما تشرح مدرسة الحضانة لصغارها الباء أنها كالطبق أو قطعة مستقيمة على طرفيها قطعتان أقصر وتحتها نقطة، وما شاكل ذلك، وتُرِيهِ خَطَّها الرديءَ على السَّبُّورة.
وهذا الأمر الثالث هو أول فساد خطي تشهده عين الصغير فينطبع في مخيلته، ويمثل الطريقة الْمُثلى التي يُحاول محاكاتَها اقترابًا أو ابتعادًا وَفقًا لقدرةِ عضلاتِ يده وعَصَبِهَا، ويُكمِّل اجتثاث الجَمَال من عين الصغير حرفُ الكراسةِ الذي طُبع بالحاسوب؛ ليمثل الصورة المكتوبة على الورق، تلك الصورة المطلوب محاكاتها عدة مرات، لِيُحاصَرَ الجمالُ الفطريُّ بِقُبْحَيْنِ، ولن يَغْلِبَ جمالٌ قُبْحَيْنِ كما لن يغلبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ!
إن الطفل الصغير أوَّلَ عُمُره يَقبَل ما يُطرح أمامَه كما هو، ويُحاكي مَن حولَه قَدْرَ طاقته، والحرف الذي يُقدِّمه الحاسبُ فيه جمودٌ وصلابةٌ بل تَيَبُّس آليٌّ هندسي مَقيت لا يتناسب وأيَّ خطٍّ من خطوط العربية، حتى الرقعةِ أو الكوفيِّ؛ لأن الخط الحاسوبيَّ مبنيٌّ على تتابع الحروف مقطَّعَةً يُسَلِّمُ بعضُها بعضًا على السطر دون مراعاة لعالٍ وهابط، ولا مراعاة للعلاقات الخاصة بين بعض الحروف وبعضها، كوضْع السِّن فوق الجيم لا قبلها إذا بُدأَتْ بها الكلمة كنجم، ولا وضع الميم أعلى الحاء في أول الكلمة أيضًا كمحمد، ولا العُلُو بالسن قبل السين أو بعدها لتسهيل قراءة السين والشين بأسنان متساوية الطول كبِسْم الله، ولا يراعي قاعدة التمييز بين الأسنان في مثل “بيت” برفع السن المتوسطة، بل يمحو القنطرة الممثلة للسن الثالثة في شينِ شيء، وهذا في أكثر الخطوط الحاسوبية، وحتى الجيدُ منها -وهو نادر الاستعمال في الكتب والكراسات الابتدائية- فإنه يقدم سطرًا يتمتع بعلاقات أفضل بين الحروف لكن لا حِسَّ فيه للسطر كلِّه بوصفه وَحدةً واحدةً، فلا يراعي تنويع التشكيل لِمَلْءِ الفراغات بجمال، وقُصَارَاهُ أن يزيد من تنوُّع أشكال الحروف كالعين الأَلِفيَّة والعين الصَّادية، والجيم الألفية المغلقة والجيم الصادية المفتوحة، وكل ذلك في خط النسخ.
وقد يرى بعض الناس أن هذه التفاصيل متخصصة وطفل الحضانة لا يعتني بذلك، وينبغي ألا نشغله بذلك، وهذا خطأ فَدْحٌ؛ لأن الطفل له قدرة هائلةٌ مذهلةٌ مروِّعةٌ على التقاط ما يراه ويسمعه، واختزان ذلك كله في نفسه وشعوره، وعقله وتفكيره، لكنه لا يُبِينُ أو يؤدي إلا حين تَقْوى أعضاءُ الأداء عنده كَيَدِهِ للكتابة ورجله للرَّكْل ولسانه للكلام وهكذا، والحرْصُ ضرورةٌ فيما تتعرض له حواس الطفل الصغير من كلمات وأصوات وحروف وكتابات، وإلا فأصوات الشكوى من سوء الخط في الجيل الجديد وضعفه في مهارات الكتابة صارت حديثَ العصر.
فما الحل إذن؟
حينما كنتُ أقرأُ على شيخي الشيخ محمد عبد الرحيم بن الشيخ جاد بدر الدين عليه الرُّضوان كان عمره تسعين عامًا، وكنت أقرأ عليه من كُتُبِه التي كتبها بخطه، ولم تكن طُبِعَت بَعْدُ، فيُرشدني لكتاب في مكتبته قائلًا: “تجد كتاب الرسالة والرسول بخط الرقعة” أما كتب النحو والبلاغة والعقيدة ودواوينه فكانت بالنسخ، لم يَعرف حينها الشيخُ تخصصي في الخط العربي، لكني بُهِرْتُ أنه يُحْسِنُ هذا الإحسان، مع أنه لم يكن خطاطًا يومًا، كل ما في المسألة أنه كان أزهريًّا حقيقيًّا! وأن أمه علمته الكتابة قبل تمامه عامه الرابع في الدنيا؛ ليذهب بعدها إلى الكُتَّاب يقرأ ويكتُب.
هذه الأولى، والثانية حينما كَتَبَ لي مشرفي على الدكتوراه الأولى الأستاذ الدكتور أيمن ميدان الدَّرْعَمِيُّ الذي في عقده الخامس، كَتَبَ توجيهاتٍ في ورقتين عَلَّق بها على عمل قدَّمتُه له، فوجدتُ كتابته لخط الرُّقْعَةِ مُقَعَّدَةً رَابيةَ الْأَنَاقَة، فسألته عما إذا كان دَرَسَ الخطَّ العربي في مدرسة الخطوط أو مع خطاط؟ فنَفى ذلك، إنما هي المدرسة الابتدائية في ريفهم!
والثالثة الأخيرة حين أخبرني أبي عن جَدِّي الأزهري الذي لم أره أنه كان يكتب النسخ والرقعة والثلث، ولم يكن طالبًا في مدرسة الخطوط ولا ذَهَب لخطاط لِيعلِّمَه، وإنما هو المعهد والكُتَّابُ، ثم بحثت عن الأزهر الآن فإذا هو ما زال يُعَيِّن مدرسًا للخط مستقلًّا، ويدرِّس ويمتحنُ الطالبَ في النسخ والرقعة والثلث، ولو لم يكن أحدٌ فيه يعرف الفَرْقَ الآن بين الثلاثة، إلا ما رحم ربي، وقليل ما هم؛ لأنه ضَعُفَ الطالبُ والمطلُوبُ!
وماذا بَعْدُ؟
إن الأجيال السابقة كانت تحتفظ بقدْرٍ من الجمال في عينها مستحسِنةً فنونَ الخط والموسيقا والغِناء والعمارة التي لها ذوق وبها جُهْد وعليها طلاوة، وهذا بخلاف الأجيال التي تَقْطَع الآن عقدها الثاني أو الثالث، وهذا المؤشر ليس في الكتابة والخط فقط، بل هو في العين والنفس، فمَنِ الذي اغتال العَيْنَ والنَّفْس؟ وهل يُقْتَصُّ منه؟ العينُ بالعينِ والنفسُ بالنفس؟!
اعتياد الناس الكتابةَ على الحاسوب أورث الجيل الجديد ضُعْفًا قَلَمِيًّا لا يعاني منه الجيل القديم لاعتياده القلمَ قبل الحاسب، فلا يضره الجمع بينهما، ولا يدرك أنه يضرُّ أبناءه حين يجمع عليه لا له الحاسوب والـ “KG” وما أدراك ما هيه؟!
والحل المتوافر في السوق؟
والحل كان مبذولًا في قصص مكتبة سمير الطفل لمحمد عادل السحَّار الصادرة عن مكتبة مصر، قصص مناسبة للأطفال مع رسوم كبيرة واضحة والكتابة بقلم سُمْكُهُ مناسب، بخط نسخٍ جميل، في تعليق على الصورة بسطرين لحكاية القصة، وموضوعها كتكوت صغير أو ما شابه ذلك، وهذا مثال واحد، ومن أراد البحث في مَعْرِض الكتاب وَجَدَ بُغْيَتَه، المهم أن يكون مبتغِيًا حتى يقع على البغية، لا أن يبحث عن شيء للأطفال والسلام.
إن الأخطاء الحاسوبية التي في الكتابة العربية على الحاسوب ليست إلا ثمرةَ العجلةِ والاستخفافِ والاستهانة، فليس الخط العربي كالخطوط اللاتينية والجرمانية، ليس حروفًا متلاصقة تتصل بطرف صغير، إن الحرف العربي يختلف شكله من حالة الإفراد عن حالة الابتداء به في الكلمة عن حالة توسطه فيها عن حالة الانتهاء به، كفَتْح العين مفردةً، وطَمْسِ رأسها مع حذف بطنها متوسِّطَةً، وطمسها مع إثبات البطن منتهيةً، وكل هذا على خط النسخ وحده.
وحينما عمل المصمم لم يراعِ تلك الخصوصيات، بل فَكَّر في جَعْلِ الحرف العربي كالعجمي قطعة تصطف بجوار أخرى، بغَضِّ النظر عما يجب أن يحدثه التركيب في ذلك، وحتى حين تَطوَّر الحاسوب ظَلَّتْ خدمة العربية فيه ضعيفةً جدًّا جدًّا، وهذا خطأُ جيلٍ من المبرمجين منعدِمِي الهُوية سيدفع ثمنَه مَن لا يجد الخدمةَ إلا إنجليزيةً أو عربيةً شائهةً من أبنائنا الصغار، ثم يكون هذا هو الواقع الذي نرضخ له، وبئس الواقع هو! وبئس الآباء!
أما الحل غير المتوافر في السوق فهو أن يحترم العرب المسلمون القائمون على تعليم الحضانات والمدارس الابتدائية عيون أطفالهم، ويبذل كلٌّ منهم أشهرًا في تعلم النسخ على وجهِه قبلَ أن يتصدر لطلابه كاشفًا عورةَ جهلِهِ مُبَاهِيًا بها أمامَ الناس، وأن تصان عين الطفل عن خط الحاسوب ولو في الحضانة فقط، كما تُصَانُ عن اللفظ النابي، وكما ينبغي أن تصان عن “sorry, OK, KG, wow, oops…” وما شاكل ذلك.