رحلة عبر الزمن.. تاريخ المحركات
في يوم مشمس وجميل، في أحد العطلات الصيفية، ذهبتَ مع عائلتك إلى رحلة ريفية بالسيارة، كي تقضوا اليوم بالخارج، وتستمتعوا بالأجواء.
وبينما تطوي السيارة الطريق، سألت والدك، كيف تعمل السيارة؟
فكر والدك قليلا، ثم أجابك: “تعمل السيارة عن طريق المحرك“.
بالطبع أول سؤال تبادر إلى ذهنك، ما هو “المحرك“؟!
مبدأ تحويل الطاقة
السِّمة المميزة لحضارتنا المعاصرة – التي تجعلها مختلفة عن باقي الحضارات السابقة – هي الاستخدام الواسع للطاقة الميكانيكية.
ففي العصور الغابرة كان المصدر الأساسي للقوة لدى الإنسان عضلات جسده. ثم لاحقًا في مرحلة متقدمة من التاريخ تم تدريب الحيوانات لكي تساعده في إتمام أعماله. ثم سُخّرت طاقة الرياح والأنهار الجارية.
ولكن القفزة الأعظم في تاريخ البشرية كانت عندما تعلم الإنسان فن تحويل الطاقة من صورة لصورة أخرى. حيث تم تحويل صورة الطاقة التي تأتي من الطبيعة إلى صور من الطاقة يمكن أن يستخدمها الإنسان، فعلى مر القرون الماضية طُورت مجموعة كبيرة من الأجهزة والأنظمة من أجل هذا الغرض.
حيث كانت بعض هذه الأنظمة بسيطة جدًا في فكرتها وتنفيذها، فعلى سبيل المثال كانت تُستخدم طواحين الهواء لتحويل الطاقة الحركية إلى طاقة ميكانيكية لاستخدامها في ضخ المياه وطحن حبوب القمح.
وبعض الأنظمة الأخرى تُعد أكثر تعقيدًا، وخاصةً التي تأخذ الطاقة الخام من الوقود الحفري والنووي لتولد الطاقة الكهربية. ومثل هذه الأنظمة تتطلب خطوات أو عمليات كثيرة، والتي تخضع فيها الطاقة إلى سلسلة كاملة من التحولات لصور وسيطة متعددة من صور الطاقة.
ومعظم مُحولات الطاقة التي تُستخدم اليوم تتضمن تحويل الطاقة الحرارية إلى طاقة كهربائية، أو ميكانيكية.
تاريخ المحركات البخارية
دعنا نبدأ في التعرف على تاريخ المحركات، فلنركب آلة الزمن معًا ولنربط أحزمة الأمان – هذا إن كانت تمتلك أحزمة أمان من الأساس – ونعود للخلف لـثلاثمئة عام مضت، تقريبا في العام 1712م، حيث تم اختراع أول محرك بخاري (Steam Engine).
المحركات والتوربينات البخارية جعلت من الممكن الحصول على الطاقة من الحرارة عن طريق استخدام البخار. فكانت هذه المحركات هي أول ما وفر كمية طاقة كافية باستقلالية كبيرة عن المكان والطقس والفصول السنوية أو حتى الاعتماد على الحيوان.
ورغم ظهورها منذ ثلاثمئة عام، فلم يكن يوجد الكثير من هذه المحركات حتى مائتي عام مضت خارج دولة بريطانيا العظمى. فالحصول على طاقة ميكانيكية كان أحد أهم العوامل التي غيرت معالم المجتمعات الصناعية، والتي زادت من ثروات الأمم المشاركة في هذا التغيير المجتمعي العظيم.
كما أن الحصول على الجهد من الحرارة كان يُعد نهجًا جديدًا في استخدام قوى الطبيعة، فلم يكن أمرًا مفاجئًا أن المحركات البخارية أعطت دويًّا عظيمًا لتطوير الديناميكا الحرارية وهو ما يطلق عليه علم الطاقة.
الحاجة أم الاختراع
تقوم فكرة عمل المحركات البخارية على طاقة البخار التي تضغط على مكبس واحد أو أكثر.
تم اختراع أنواعه المختلفة خلال المئة عام منذ 1700 وحتى 1800 تقريبًا، كما شهدت المئة عام التالية تحسينات وتعديلات كبيرة في بناء وتصميم هذه المحركات.
وحيث كانت – في ذلك الوقت – دولة بريطانيا العظمى هي القوة الاقتصادية الأولى في العالم؛ نتيجة لرأس مالها في الاستثمار في مجال الزراعة، وازدهار التجارة. ولكن لم تكن قدرتها على التجارة العالمية بهذه الكفاءة أو بالكميات المطلوبة.
حيث كانت تفتقر الدولة إلى كميات الخشب الكافية؛ لذا كان اعتمادها الأساسي قائمًا على الفحم في عملية إنتاج الطاقة والحرارة. وحيث كان لزامًا استخراج الفحم الخام من المناجم والتي كانت تُغمر بالماء كلما تم حفرها لأعماق أكبر، لذا كان من الضروري أن يتم ضخ الماء خارج المنجم، وكانت تتم هذه العملية عن طريق مضخات تعمل بقوة الأحصنة، ولكن كلما زادت الحاجة لضخ كميات أكبر من الماء زاد استخدام الأحصنة أكثر وأكثر (كان يتم استخدام 500 حصان في المنجم الواحد)، مما أدى إلى صعوبة وتعقيد هذه العملية وأصبحت مُكلفة للغاية. لذا كان من الضروري اختراع المحرك البخاري لاستخدامه في توليد الطاقة لتشغيل هذه المضخات. وهو التطبيق العملي للمثل القائل “الحاجة أم الاختراع“.
ولكن منذ حوالي العام 1900، حلّت التوربينات البخارية محل المحركات وذلك لإنتاج الطاقة على نطاق أوسع (محطات الطاقة، والسفن)، كما حلّت محركات الاحتراق الداخلي مكانها في إنتاج الطاقة المحدودة (المواصلات كالسيارات والقطارات).
وفي حوالي العام 1950 لم تعد المحركات البخارية تُستخدم في الدول المتقدمة، واليوم يمكنك أن ترى هذه المحركات في المتاحف مثل متاحف السفن والقطارات العتيقة.
المحركات البخارية من النوع المفتوح؛ أي أنك يمكنك رؤية المكابس، والكرنك (ذراع الموتور)، والقضبان بشكل واضح. وهناك عدد كبير من الأفلام على شبكة الإنترنت والتي تظهر لك عمل هذه المكونات، وتمكنك من فهم طريقة عمل المحرك البخاري بصورة سهلة ومبسّطة.
مساهمات العلماء في تطوير المحركات البخارية
وقام العديد من العلماء بمساهمات عظيمة في تطوير المحركات البخارية، لنستعرض معًا أهم ثلاث علماء وإسهاماتهم في اختراع وتطوير المحرك البخاري.
توماس نيوكمان (ThomasNewcomen)
المهندس الإنجليزي الذي قام باختراع أول محرك بخاري عملي يمكن استخدامه في العام 1712.
والذي تمت تسميته بمحرك الغلاف الجوي لنيوكمان (Newcomen’s atmospheric engine)
جيمس واط (JamesWatt)
المهندس الاسكتلندي جيمس واط والذي دائمًا ما ينسب إليه فضل اختراع المحرك البخاري، وهذه المعلومة ليست صحيحة، ولكنه بالفعل قام بعدد كبير من التعديلات والتحسينات والإضافات على هذا المحرك منذ العام 1736 وحتى العام 1814، لدرجة أن المحرك الذي صممه طغى على النُسخ الأقدم ولم يعد أحد يستخدمها.
ريتشارد تريفيثيك (RichardTrevithick)
المهندس الإنجليزي الذي قام باختراع أول محرك بخاري (ثابت ومتحرك) ذو ضغط عالي في العام 1797، وتمت تسميته (Trevithick’s high pressure engine).
تاريخ محركات الاحتراق الداخلي
ظلت المحركات البخارية مسيطرة على مجال الصناعة والمواصلات خلال معظم القرن التاسع عشر، ولكن ظل المهندسون والعلماء في عملية البحث والتطوير لمصادر محولات أخرى لصور الطاقة المخلتفة.
إذن دعنا نركب آلة الزمن مرة أخرى – من فضلك لا تخبرني أنك تعبت من الآن فالرحلة ما زالت مستمرة – وننطلق إلى بدايات العام 1900، لنرى أن محركات الاحتراق الداخلي قد بدأت بالفعل في استبدال محركات البخار، لتصبح النظام الأكثر استخدامًا في توليد الطاقة عالميًا. ولم يكن هذا إلا لمميزاتها العديدة مثل كفاءتها الحرارية العالية، ووزنها الخفيف نسبيًا مقارنةً بالمحركات البخارية، واندماجها بشكل معقول، فهي تُعتبر محطة طاقة قائمة بذاتها.
مساهمات العلماء في تطوير محركات الاحتراق الداخلي
المهندس الألماني نيكولاس أوجوست أوتو (Nikolaus August Otto) له الفضل في بناء وتصميم أول محرك احتراق داخلي عملي ذي الأشواط الأربعة (four-stroke) في العام 1876، على الرغم من ظهور بعض الأجهزة البدائية لفكرة المحرك في أوائل القرن. فيما يعرف بمبدأ دورة أوتو (Otto cycle). حيث يعتبر هذا التصميم نموذجًا رئيسًا لمعظم محركات السيارات المستخدمة حاليًّا.
وفي العام 1885 قام المهندس الألماني جوتليب دايملر (Gottlieb Daimler) بالتعديل في محرك أوتو ليجعله قادرًا على حرق الجازولين بدلًا من مسحوق الفحم، حيث اخترع ما يُعرف بالنموذج المبدئي لمحرك الجاز الحديث، حيث كان ذو اسطوانة عمودية (vertical cylinder)، وحقن الجازولين عن طريق المكربن أو ما يعرف في مجال السيارات بالكاربراتير (carburetor). وخلال عدة عقود من الزمن توسع استخدام محرك الجازولين
(gasoline engine) في الدراجات البخارية والسيارات والشاحنات الصغيرة.
نوعًا آخر من محركات الاحتراق الداخلي تم تصميمه بواسطة المهندس الألماني رودولف ديزل (Rudolf Diesel) في أوائل العام 1890، والذي تمت تسميته محرك الديزل (diesel engine). هذا المحرك كان أكثر كفاءة من محرك أوتو، حيث تم استخدام وقود أثقل؛ مما يجعله أرخص سعرًا وأقل تطايرًا من الجازولين (البنزين). وكنتيجة لهذه المميزات تم استخدام محرك الديزل كمصدر الطاقة الرئيس للغواصات، والقطارات، والمعدات الثقيلة.
وفي العام 1885 قام المهندس الألماني كارل بينز (Karl Benz) بتصميم وبناء أول سيارة عملية تعمل بمحرك احتراق داخلي، وفي يناير 1886 سجل براءة الاختراع الأولى للسيارة. وكانت هذه السيارة بثلاث عجلات (الموتورفاجن – the Motorwagen) وهي محفوظة الآن في أحد متاحف مدينة ميونيخ الألمانية.
وقام كارل بينز ببناء وتصميم أول سيارة رباعية العجلات في العام 1891، ثم أنشأ شركة لإنتاج السيارات والتي أصبحت أكبر شركة لتصنيع السيارات في العام 1900.
وفي العام 1926 اندمجت شركة بينز مع شركة دايملر للمواتير ليشكلوا شركة دايملر–بينز (Daimler-Benz) والتي قامت فيما بعد بتصنيع سيارات المرسيدس بينز (Mercedes-Benz).
حسنا انتهت رحلتنا هنا، فلقد تعرفنا على تاريخ المحركات منذ البداية، سواء كانت بداية اختراع المحركات البخارية أو محركات الاحتراق الداخلي.
لنركب إذن آلة الزمن للمرة الأخيرة، ونعود إلى وقتنا الحاضر، أرجو أن تكون قد استمتعت بهذه الرحلة القصيرة في الزمن. وتكون قد استفدت بهذه المعلومات البسيطة.
وإلى اللقاء في رحلات زمنية قادمة.