فَرْحَةُ أُسْتَاذِ الْأَدَبِ
سَكَتُّ؛ فَغَرَّ أَعْدَائِي السُّكُوتُ وَظَنُّونِي لِأَهْلِيَ قَدْ نَسِيتُ
وَكَيْفَ أَنَامُ عَنْ سَادَاتِ قَوْمٍ أَنَا فِي فَضْلِ نِعْمَتِهِمْ رَبِيتُ
هكذا وَصَلَتْ إلينا قصيدةُ عنترةَ بنِ شَدَّادٍ الْعَبْسِيِّ، وهكذا أَطَافَتْ بلِسَانِ الأستاذ وطلابِه، يُرَدِّدُها عليهم، فَكأَنَّ روحَ عنترةَ تُلِمُّ بالمكانِ، ثُم يُرَدِّدُها تارةً أخرى، فتَحْضُرُ روحُ الشاعر حُضورًا مُشرقًا، وتَبْقَى مع الطلاب، يُحاورُونَها، ويَتساءَلُون، ويَتَمَلَّوْنَ فيها، وَيَمْتَلِئُونَ..
هِيهِ! دَرْسُ أَدَب!
بعد فَتْرة فَتَرَتْ فيها دواعي الأدب، وتَرَاخى فيها سَبَبُه وَثِنْيَاهُ بِاليَدِ، جاءَتْ نَدَرَةٌ على غِرَّةٍ، ونِعْمَتِ الغِرَّة! سَاقَتْني الأقدارُ التي تَسُوقُ كلَّ حَيٍّ إلى دَرْسٍ في الأدب؛ فَعَادَ الدَّهْرُ إلى عَهْدٍ قديمٍ تجَرَّم، وجَدَّدَ من حَلاوَةِ التدريس ما كان بَدَّد؛ فله الْحُكْمُ، وإليه تُرْجَعون.
عُدْتُ أراجعُ ديوانَ عنترةَ في طبعاته، أُقارِن بين روايات بعض القصائد، حتى أفضى المجلس إلى قراءة الديوان بُغيةَ انتقاءِ ما يُناسب الطلاب، يا لها من بهجة! فما أشهاها! وأبهاها! وأحلاها! تلك المراجعة لإعداد الدرس. وكان عنترةُ أنسبَ إليهم، ولعله من عزائه أَنْ لَمْ يَكن أنسبَ الشعراء.. بَجَل.. لم يكن أنسبَهم نسبًا ولا نسيبًا، ولو طَفَح ديوانه بمجْدِ قومه، وشمائلِ عبلة وأوصافها.. لكنَّا كُنَّا في حاجةٍ لشعر سَهْل، يفتتحُ الْمَرْءُ به لقاءَه، فإن البَدء بالعويصِ مُهْلِك.. مُهلِك للأستاذ قبل الطالب.. لا لأن أنه لا يَقْدِر عليه؛ إِذْ لم يَصِر أستاذًا حقًّا إلا حين قَدَر عليه، لكن لأنه سينفق كثيرَ عَنَاءٍ في شرح أوَّلِيَّاتٍ يحتملُها السَّهل والعَويص؛ فيبدو التقدمُ بطيئًا جدًّا.. فَيَمَلُّ المعلمُ من أن الطالبَ لم يَرْتَقِ إلى درجةِ الكلام العالِية، ولم يَغُصْ على معانيه القارَّة، ولا يجدُ في عَينِ طالبه ذلك الحِسَّ والحَدْس؛ فيُحبِطُه عَجْزُ الطالب عن استكمال طَوْق الأستاذ، والأستاذ هو الذي جَنَى على طالبه وعلى نفسه.. والكلام هنا على الأستاذ الْمُتْقِن، وأما أكثر مَن نراهم في الدروس مِمَّن يَمُر بالقصيدة كاملةً في محاضرةٍ واحدة، أو بالسورة تملأ نصفَ صفحةٍ أو أكثرَ في محاضرةٍ واحدةٍ، فإما مرتزِقة تَضْغَطُ عليهم الإدارة أنْ لَا وَقْتَ للشرح؛ فَافْرُغُوا من المقرَّر الدراسي، قاتل الله العلم حين صار مقررًا دراسيًّا!! أو لا يَعرفون خيرًا مِن ذلك.. ولله الأمرُ مِن قبلٍ ومِن بعدٍ..
هو إذن عنترةُ بنُ شَدَّاد.. بدأتُ الدرسَ أَسْتَفِزُّ الطلاب من الأرض: ماذا تعرفون عن عنترة؟ فقال وقالَتْ، ولم يَزِدْ أحدُهما على سطر أو سطرَيْن، وكأنه بعيدُ العهدِ عنهم، يتكلمون عن شخصية تاريخية، لم يَبْقَ منها سِوَى حِبرٍ في وَرَقٍ، وخَبَرِ قد مَرَق، فحَلَّ عِنَانَ الفَرَس.. أَنِ اذْرَعِ الأَرْضَ بحثًا عن عنترة.. مَن هو؟ ومَن يكونُ قومُه؟ وما الشُّعلةُ المتَّقِدَة التي اشتَمَلَتْ عليها ضُلُوعُه؟ أيٌّ فَتًى ذاك الفتى؟! فقام الرجل فينا يتكلم.. وفي أوَّلِ كلامُه جاء أنه أسودَ اللوْن!!
وماذا عليه في هذا كلِّه.. ثم ماذا له من هذا كلِّه.. إنه مفتاحُ شطر الديوان يا ابن أخي.. فلا تُهمِلْ تاريخَ النصِّ إلى إعراب كلماته وتحديد تشبيهاته واستعاراته، كآلات النحوِ والبلاغةِ التي نراها في الأزهر ودار العلوم وغيرهما، آلةٌ في صورة رَجُل.. والخَلْقُ يتطوَّر على رأي دارون، من حَدِيدٍ إلى لَحْمٍ ودَمٍ، ليس فيه من الدماء حياةُ الدَّمِ ودَفْقُه، بل جُمودُه وقتامته وكآبته.. ثم يَدَّعُونَ علينا أنهم يَشرحون الشِّعرَ.. بَلْ.. بَلِ القرآن العظيم!! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
كان أسودَ اللَّوْن.. وللسَّوَاد قصةٌ عند العرب، ألم يكن في العرب دولٌ وممالِك، من أَرْبى ممالك الأرض، وأعظمِ ممالك الدنيا.. حِمْيَر وسَبَأ ومَعِين، ثم دَالَ منها ما دَالَ، وانهَدَم ما انهدَم؛ فوجد فيهم سُودُ الْحَبَشَةِ مطعَمًا سَهْلًا، وحِمًى لا يَعِزُّ انتِهَاكُه، فَنَزَلُوا الجَزيرَة، وبَغَوْا فيها، وظَلَمُوا أهلَها، حتى مَقَتَهُم العَرَبُ، واعتقَدُوا مَقْتَهُم دِينًا، يُلَقِّنُونَه أبناءَهم، ويَنْفُخُونه في أرواح ذَرَارِيهم، أنَّ لَعْنَةَ الله على الحَبَشَة ولَفِّهِم..
وليس من ذلك ببعيد –كما تعلم- أنَّ أَبْرَهَة الأَشْرَم لعنه الله حين بَنَى بناءه يُريدُ ردَّ الناس عن دينهم وعن حَجِّ بيتِ ربِّهم إلى دينِه قَسْرًا واستكبارًا، قام له عربيٌّ ابنُ عربيٍّ، لم يَجِد ما يَفُتُّ به في عضد الْمَلِك الغَاشِم إلى أن تَغَوَّطَ له في بنائه، وهو رَمْزٌ لحرَارة مُتَّقِدَة لِكِبْرِيَاءٍ مُنْكَسِر، لم يَقْدِر فُرسانُ الْعَرَب على رَفْعَه فوقَ سُيُوفِهم، فقَدَرَ رجلٌ من لَهَازِمِهم أن يُنفِذَه في بيتِ أَبْرَهَة.. حتى أغضبَه، فعَزَم على هَدْم بيتِ الله الحرام..
كل هذا مختزنٌ في كَلِمَةِ أَسْود ومشتقَّاتِها حين تُضاف إلى الإنسان.. فلم تكن ساعتَئِذٍ علامةَ احتِقَارٍ للعَبِيد، بل علامةَ غَضَبِ العرب المكتُوم من هؤلاء البُغَاة الغُزَاة البُزَاة..
ولِذَا تَسْمَعُ في كلامهم: أبيضَّ وجهُه بِشْرًا وحُبُورًا، وأسوَدَّ وجهُه شُؤْمًا وبُؤْسًا، وعلى هذا جرى من كلام الله ما جرى.. فَتَدَبَّر، ولا تَنْعِقْ بما لا تعلم..
حتى إن جيوشًا منَ العَرَب حارَبَتِ الحَبَش حين قصدُوا البيتَ الْمَرَّةً تِلْوَ الْمَرَّةِ تِلْوَ المرةِ، ولم يرتَكِنُوا إلى أن الله يَنصُر بيتَه، وإن أيقنوا بالهزيمة أمامَ الفيل، لكنه لا بُدَّ مما ليس منه بُدٌّ، وفي كتب السِّيَر بَسْطُ الحديث.. فافهم لماذا ارتبط السوادُ بالعِبيد من جهة، وارتبط عندهم السوادُ بالاحتقار من أخرى، ولماذا قال أبو ذَرٍّ الغِفاري لِبِلَالٍ الحبشي يا ابنَ السوداء.. ولماذا كان شَتْمًا، ولو قُلْتُ لك يا ابن البيضاء ما كان كذلك..
ومن بَطْنِ هؤلاء جاء عنترة، شطرُه، وشطرُه من سَيِّد عَبْس، فرأى نفور الناس من لونه نفورًا من الحَبَشِ وأفعالهم، والْمَيْلُ لا يَفْرُق كما العَقْل؛ فَلَو قَبِلُوه فارسًا في الهيجاء، فلن تَقْبَلَه نفوسُهم في أندية اللَّهْوِ والغناء.. ومن هنا حَزَبَهُ من شأن نفسه ما حَزَبَه؛ فلا هو هانئٌ بالرعي والأكل والشرب وصفَاء البال كالعبيد الأقوياء، والعبد القوي قادر على الهرب واللحاق بالصعاليك، فلا يستقر عند سيده إلا لو كان أهنأ حالًا، ولا هو يحمِلُ هَمَّ القبيلةِ وسِلْمها وحَرْبها كالسادة؛ فتوقَّفْ عند كلِّ ما يَدُلُّك على هذا في شعره؛ فإن النقدَ الأدبي لا يَقِفُ عند تحديد الكناية والتشبيه، بل ينفذ إلى إجابة سؤال: كيف أدى هذا الكلام المقول، ما في نفس صاحبه من المعاني؟ أصَدَقَ فيه؟ أعمَّى علينا؟ أدَارَ واختال؟ أبَكى وانتَحَب؟ أكان هو هو؟ أم كان هو غيرَه؟
مضى بنا الحديث إذن إلى عهْدِ عنترة في عَبْسٍ، حين كانت عبسٌ تحارب العَجَم كما تحارب العرب، ومعنى الجاهلية، وما ورد منها في القرآن والسنة، وكيف يراد بالجاهلية جَهْلًا هو ضِدُّ الْحِلْم، لا جَهْلًا هو ضد العِلْم كما يريد أن يُفهِمَك جمهرةُ الخطباء الآن ومن يتَمَسَّحون بمسوح العلم أو الوعظ.. فإذا اختلفَتْ نظرتُك إلى سياق أجدادك فهلم إلينا نقرأ ونُعْرب. فشدَا كلُّ طالب بالنص مراتٍ، يقوِّمُه الأستاذ ويُزْجِيه، حتى يوافق نَغَمًا وجَرْسًا يَطِنُّ في الأذن من فمِ عَنْتَرَة بلا واسطة.. ثُمْ جاء وقتُ النحو والصرف والبلاغة والعروض، لنستعرضَ بعض مذاهبِ النحاة في إعراب البيت الأول، في مثل من ألْزَمَ الفعل الماضي البناء على الفَتْح ولو مُقَدَّرًا، ومن قال بتناوُب أنواع البناء عليه، وفلسفة كَوْن الكلمة مُعْرَبَةً أو مبنية، وأيُّ المذهبين أوفَى للظاهرة اللغوية، وأيُّهما أوفى للاطراد والانقياس؛ إرضاءً لأرسطو لا سيبويهِ..
ومن بعد ذلك كيف تخرج كناياتٌ في كنايات، حتى يكونَ البيت الثاني كنايةً كلَّه عن جملة واحدة، هي: ما نَسِيتُهم. فطَلَبْتُ منهما أن يَنْثُرا معنى البيتين بأسلوبهما؛ ففَعَلَا. ثم طَفِقْنَا نقابل بين كلِّ جملةٍ في النص وجملةٍ في نثرهما، حتى نتبينَ مقدارَ التفاضل، في إنشاء الكلام وذَوْقه، حتى قابل البيتُ الثاني تلك الجملة؛ فوقع عندئذٍ في النفوس كيف أصاب الرجل في سَوْق ما ساق.. بل كيف أَنِفَ أن ينهضَ لقومه، وإنما لِسادات قَوْمِه، لأنه يَصْرُخ قائلًا في الخلفية أنا من السادة لا من غيرهم، وكيف أَنِفَ تارةً أخرى أن يقول: رَبَّوْنِي في فضل نِعْمَتِهم، فقال: أنا رَبِيتُ في فضل نعمتهم، فهو أهم ما في الكلام على الحقيقة، ولو بدا لك من البيت أنه يشير بالفضل إليهم، فإن تحت السطح غَوْرًا، فلا يفوتنك سَبْرُه.
ثم رجع الأستاذ إلى نفسه، يقول: وَيْحِي! ماذا قلتُ جديدًا حتى أُسَرَّ بما أقول، وماذا قَالَا جديدًا حتى أَفْرَح بما قالوا، كلُّ ذلك لم يَكُن، لكن الجديد أننا قُلْنَا، بل قلنا جميعًا معًا، وتَنَفَّسْنَا عبيرَ درْسِ الأدب، وتأمَّلْنا.. واجتمعَتْ لنا قرائحُ تتلاقَح، فَمَضَى في هَيْنَمَات.. وهَيْنَمَات.. وقد فَرَغ من شَرْح بيتٍ واحد في درس واحد، وكفى به بيتًا.. وهل يَطْلُب المرءُ من كلِّ الدنيا سُوَى بيتٍ واحدٍ؟!