صوت المعلم

فِي تَدْرِيسِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَجْوِيدًا وَتَفْسِيرًا – الْقِسْمُ الْأَوَّلُ

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، حمدًا لله، وثناءً عليه، وتمجيدًا وتقديسًا له، وصلاةً وسلامًا على سيدِنا رسولِ الله محمدٍ، وعلى أبوَيْهِ إبراهيمَ وإسماعيلَ أما بَعدُ؛ فهذِي نظراتٌ أَخُطُّها في تدريس القرآن العظيم تجويدًا وتفسيرًا، وقد مَنَّ الله عليَّ أن قرأْتُه وأَقرَأْتُه؛ فَفَادَ مِن اللهِ مَا أَفَاضَ[1]، فله الحمدُ أوَّلًا وآخِرًا.

لمن هذا البرنامج:

وما سيأتي في تدريس القرآن لغير الأطفال ولا الْمُسِنِّينَ، بل لِمَن طلبوا أن يزيدَ نَصيبُهم من القرآن من الشَّبَاب، أي: مَن في مرحلة الجامعة وما بعدها إلى قُرَابة سِنِّ الخامسة والأربعين على التقريب، شريطةَ ألا يكون برنامجًا رَسْمِيًّا، أي: أنْ يكونَ قائمًا على المجالس التي بلا شهادات حكوميةٍ ممنوحةٍ في آخرِه، ولا يمنعُ ذلك من منحِ الإجازَة المعروفة عند أهل الفَنِّ، بالسَّنَدِ المتصل إلى سيدِنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحَبَّذَا ألا تزيد المجموعة عن عشرة بخلاف الشيخ.

الفروض والنوافل في القرآن العظيم:

من المعلوم من الدين بالضرورة أن تَعَلُّمَ الفاتحةِ فرضُ عينٍ على كلِّ مُسْلِمٍ ومسلمةٍ؛ لأن الصلاة لا تكون صلاة بدونها، وما لا يُكون الواجبُ إلا به فهو واجِب[2].

وفي الفاتحةِ إحدى عشرة تشديدة مَنْ أَسقط واحدة –عمدًا أو سهوًا- منها بَطَلَت صلاتُه[3]، وأما حِفْظُ باقي القرآن وتعلُّم قراءَتِه فسَنَّةٌ يُثَابُ فاعِلُها ولا يَأثمُ تاركُها، وللقرآن سُنَنٌ كثيرة أخرى، منها الوضوءُ والاستياكُ عند قراءته، ومنها أنه يُسَنُّ خَتْمُه كلَّ أسبوعٍ مرَّة[4]، ومنها أنه تُسَنُّ قراءةُ سورتَي: “تبارك” و”السجدة” قبل النوم[5]، وقراءة سورة “يس” و”الفاتحة” و”تبارك” للمُحْتَضَر وبعد موته[6]، وقراءة سورة “القَدْر” بعد الوضوء ثلاثًا[7] وغير ذلك على ما تقرر عند السادة الفقهاء عليهم الرُّضوان، ودَعْ عَنْكَ نِزَاع الْجَهَلَة الذين يناقشون الفقه في مَعْزِل عن أصوله وقواعده ومذاهبه ولا يَرَوْن إلا تصحيحات وتضعيفات أمثالهم للأحاديث.

وعلى هذا يجب على الْمُسْلِم البَدْء بالفاتحة، ويَسَعُنِي أن أقول مما رأيتُ أن أكثرَ شباب الجامعة الذين عاصَرْتُهم لا يُحسِنُها، ولا تصح صلاته، وأنا مسؤول عن قولي هذا.

قاعدة غابت عن وعي كثير من الناس:

لا يؤخذ القرآن من المصحف مباشرةً، بل من أفواه المشايخ، والمصحف أداةٌ مساعدة للتعلم، لا تُغني وَحْدَها غَناء الشيخ، وليس لمن حَفِظَ جزأين على شيخٍ أن يَقْرَأ وحده سائر القرآن من المصحف ظانًّا أنه قد أدرك أحكام التجويد، ولا أتى بالنطق الصحيح ولا الابتداء الصحيح، ولا أنه يؤدي القرآن كما أداه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولْيُعْلَم أنه ليس من الصعب ولا المستحيل أن يؤدِّيَ المسلمُ القرآن كما أداه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كثير من الناس في الدنيا من الأحياء الآن ممن يحملون القرآن بالسند المتصل يقرؤونه كرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وبناءً على ذلك يَجِبُ على كل مسلم أن يبحث عن شيخ متقن مشهودٍ له [كالمجاز بإجازة صحيحة] ليُعَلِّمه الفاتحة، ويُسَنُّ له أن يتعلم منه أو من مثله باقي القرآن الكريم.

البداية

يُقتَرَح على الشيخِ أن يبدأ مع مجموعته من الفاتحة فإذا أتقنوها انتقل إلى البقرة وهكذا إلى آخر المصحف، ولعل هذا أَوْفَقُ كثيرًا من البَدء من آخر المصحف، أي: من الناس؛ لأسباب، منها:

– أن الشباب عادةً ما يكون لهم سَبْقُ دراسةٍ أو إلمام بآخر جزأين من القرآن، فلا يجدون جديدًا في تَكرارِهِ، وقد يؤدي هذا لتَفَلُّتِ بعضهم.

– أن البَدء من البقرة يحفز الهمم إلى ختم القرآن على ترتيبه في المصحف، وهي الطريقة التي تُنال بها الإجازةُ القرآنية، فهو أَوْلى.

– أن ضَبْطَ ألسنةِ الشباب على الأَحكام التجويدية في سورة البقرة أسهل –بالتجربة- من ضبطها في الجزء الثلاثين.

وكلُّ ذلك على رواية حفصٍ عن عاصمٍ؛ إذ يكفي المسلم أن يبدأ برواية واحدة، ولو اقتصر عليها متعبدًا بها لصَحَّتْ عبادته، ولو شاء بعد ذلك تَعَلَمَّ القراءاتِ العشرة الصغرى، وهذه تسمية مشهورة عند أهل الفَنِّ، يجمع بها الطالب بين مَتْنِ الشاطبية ومتنِ الدُّرَّة، ثم إن شاء أكمل الطريق بالقراءة بالقراءات العشرة الكبرى، وهذه تسمية مشهورة أيضًا عند أهل الفن، وهي التي يقرأ فيها الطالب بما في مَتْنِ طيبةِ النشر، وهذا الترتيب موافق لما رتَّبَتْه معاهدُ القراءات القرآنية بمصر، وأئمتها هم الْمَرْجع في هذا التخصص بإطلاق –لا تعصُّبًا عياذًا بالله- فهكذا يبدأ طالب المعاهد في عامين مرحلة التجويد، ثم ينتقل إلى عالية القراءات؛ في أعوام ثلاثة ليقرأ بالصغرى، ثم يقرأ بالكبرى في عاميِ التخصصية بعد ذلك، وله أن يكمل الدراسة بعد ذلك في كلية القرآن الكريم في طنطا التابعة لجامعة الأزهر الشريف.

ترتيب أحكام التجويد:

فإذا بدأ تدريس أحكام التجويد بدأها مراعيًا مهارة الأداء، لا التَّعَلُّم النظري، ولذلك سيقرأ، ويردد الشباب خلفه بقَدْرِ رُبُعٍ أسبوعيًّا أو رُبُعَيْن، على حسَب طاقة الشباب في الحفظ، وهذا ترتيب مقترحٌ على أساس شيوع الأحكام في الأداء، وترتيب ورود كثرتها في المصحف على ترتيبه، مع مراعاة البدء بالأسهل، والتدرج من الجزء إلى الكل:

الحكم الأولالنون والميم المشددتين:

فيشرح الشيخ الْحُكْم، ويُعَرِّف الغُنَّة، ويؤدي الأمثلة، كل ذلك بعد إقراء الشباب للربع الأول، ثم يطلب من الطلاب البحث عن الحُكْم فيما قرؤُوه، ولا بأس في هذه المرحلة من تشبيه الغنة بغُنَّة الغزال الصغير مثلًا، ويستمع إليهم فرادى في أدائه حتى يطمئن لإتقانهم له، وهذا في كل حُكْمٍ، ونُقَدِّر لتعلم هذا الحكم رُبُعَيْن، مع مراعاة الطلاب فيه جزأ كاملًا، وبعد ذلك يكون سجيةً لا تكلفَ فيه عند الجميع، إن شاء الله تعالى.

وقد بدأنا به لا بأحكام النون الساكنة والتنون بخلاف مِتَانِ التجويد وكتبه؛ لأنه أسهل وأقصر، وبإتقانه مهاريًّا يتشجع الطالب للمُضِيِّ قُدُمًا، وفيه يراقب الطالب مواضع الحروف المعرَّاة [التي ليس عليها علامة] والمشدَّدة في المصحف، فيُيَسِّر على الشيخ فتح أبواب أخرى.

الحكم الثاني: المد الواجب المتصل:

ويشرح الشيخ معنى كل كلمة فيه، ويولي اهتمامه لكلمة “الواجب” أي الذي لم تختلف في مَدِّه قراءة من القراءات العشرة المتواترة ولا غيرها، فكلهم يمده إجماعًا، ويذكر الشيخُ قصةَ سيدِنَا عبد الله بن مَسعودٍ مع الرجل الذي أقرأه “إنما الصدقات للفقراء والمساكين” وهذا يوفر فرصة للطالب حتى تَطْرُق مسامعَه سيرةُ الأكابر من القراء العشرة، ويشعر بأرواح الصحابة تقرأ له القرآن المنقول بالمشافهة عنهم، وكل هذا تمهيد روحي للدرس الثقافي الأول بعد انتهاء الجزء الأول، ونُقَدِّرُ لهذا الحكم أن الشيخَ سيحتاج إلى متابعة الطلاب فيه إلى نهاية الجزء الأول.

يتبع..

[1] هذه السلسلة كتبتها بعدما يسر الله لنا العمل في “أكاديمية الإمام الطبري لتفهيم القرآن الكريم” قرابة عام ونصف العام، تحت رئاسة الشيخ الدكتور أحمد سعد الدمنهوري المتخصص في التفسير وعلوم القرآن –بارك الله في عمره- وهو من وضع برنامجًا متكاملًا في تدريس القرآن الكريم تحت اسم “مسار الإجازة” وكنتُ أطبق البرنامج مع طائفة من أكامل الطلاب وأماجدهم وأماثلهم، ثم عنَّ لي أن أكتب خلاصة تلك الخبرة بعد ما قطعنا فيها سبعةَ أجزاء ونصف الجزء، أي: من الفاتحة إلى تمام الأنعام مع التفسير وأسباب النزول والتجويد والغريب والحفظ، فللشيخ مني وافر الشكر وللطلاب من بعد شكر الله تعالى.

[2]  في أصول الفقه: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، انظر شرح الكوكب المنير 1/258-359 طبعة العبيكان.

[3] انظر: المغني لابن قدامة، 1/348 في طبعة مكتبة القاهرة.

[4]   انظر: كشاف القناع 1/429 طبعة دار الكتب العلمية.

[5] انظر: كشاف القناع 1/78.

[6] انظر: المغني لابن قدامة 2/335، وكشاف القناع 2/82.

[7]  انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية 34/376.

د.حاتم الأنصاري

مشتغل بعلوم العربية والإسلام بحثًا وتدريسًا.
زر الذهاب إلى الأعلى