الأستاذة التي حطّمتني، والأستاذ الذي أعاد بنائي!
تختلف شخصيات الأساتذة وأدوارهم، بعضهم يختار مهنة التدريس عن اقتناع وحبّ للتعليم، والبعض الآخر يرميه القدَر في قاعات الدرس مع تلاميذ يذهبون ضحايا لضيق رُؤيته واعتقاده الرّاسخ بأن المدرسة مجرّد شركة ترغمه على الحضور صباح مساء ويرى الطريقة الوحيدة للهروب منها هي “رُخصة المرض” التي تسمح له بالبقاء في البيت بعيدًا عن ضجيج التلاميذ الذين لا أهمية لهم في وظيفته على الإطلاق ما داموا لا يؤثرون على أجره الشّهري !
لكي أقرّبكم من واقع الأستاذ، من خلال تجربتي الشخصية، اخترت لكم موقفين يُظهران بشكل واضح جدّاً الفرق بين “الأستاذ المُربّي” و “الأستاذ العامِل وحسب”!
منهج الوزارة “المُقدّس” !
كانت مادة الفيزياء و الكيمياء ضرورية جدًّا لنا كتلاميذ في شعبة العلوم خلال السنة الأولى الثانوية، وكان من المهمّ أن نفهم جيّدًا مبادئها لأنها ستكون الأساس الذي سنتابع من خلاله دراساتنا الثانوية العلمية، ولكن لسوء الحظ كانت الأستاذة عاملاً أساسيًا في جعل أغلبنا يكرهون الفيزياء والكيمياء وكلّ من يذكُرها، وحتى من حافظوا على عشقهم للمادة برغم كلّ شيء، لم ينجوا أبدًا من الرّسوب لاحقًا في المادة بسبب لامبالاة الأستاذة. لكن ماذا كانت تفعل بالضبط؟
قبل كلّ شيء، أعتقد أنها كانت الأستاذة الوحيدة التي نراها مرّتين كلّ شهر، فقط! باقي الأيام كانت رُخصة “مرض” لها، وكنا نقضي الوقت المخصص لحصّتها في ساحة الرّياضة أو في الشّارع لأن الوقت لا يكفي للذهاب للبيت والعودة للحصة الموالية.
أما حين كانت تحضُر في تلك المرّتين اليتيمتين، وبدل أن تحاول تعويض شيء مما فاتنا بسببها، كانت تزيد الطّين بلّة!
أوّلًا، الحصّة مُملة، الأستاذة وحدها من يتكلم، ممنوع الحديث داخل الحصة، ومجرد الحركة “دون إذن” (نعم، يجب أن تطلب الإذن لتعطي القلم لصديقك الذي يجلس خلفك!) تؤدّي لحُكم الطرد من قاعة الدّرس! وهكذا تقلّص مرات حضورك لحصة الفيزياء والكيمياء لتصل أحيانًا إلى مرّتين كلّ 3 أشهر.
وثانيًا، الامتحان صعبٌ جدّاً والمنهجُ مقدّس! هذا يعني أن الامتحان كان يحتوي أسئلة عجيبة وأغرب حتى من التفاعلات الكيميائية التي تحدثنا عنها طويلاً ولم يسبق أن رأيناها أمام أعيننا في مُختبر قاعة الدرس! والأجمل كانت الحصة التي تأتي فيها لتُعطينا أوراقنا ونرى نتائج الامتحان: لا أذكر أن أحدًا كان يحصل على أكثر من 5/20، بمن فيهم أنا!
كنت من بين القلّة الذين اختاروا وسيلة أخرى لدراسة المادة، وهي الدروس الخصوصية. كنت أحصل على ستّ ساعات أسبوعيًا لدى أستاذ كان يدرّسنا المادة في مؤسسة خاصة، وكان ممتازًا جدًّا لدرجة أنه كان يشرح في ساعتين ما تعجز هي عن شرحه لنا في 3 أشهر كاملة. وكان يقدم لنا أساليب مختصرة وجميلة لحلّ الأسئلة المعقدة التي كنا نصادفها دائمًا. ومن بينها “معادلات التفاعلات الكيميائية”.
ما حدث في أحد الأيام أن الأستاذة كانت تسألنا عن معادلات بعض التفاعلات، وطلبت منا أن نجيبها. أذكر أنني أنجزتها بالطريقة التي شرحها لنا أستاذ الدروس الخصوصية، وكانت فعالة جدًّا لدرجة أن احتمال الخطأ كان 0%. وفعلاً، رفعت اصبعي، وأجبتها، وطلبت مني أن أخبرها هل استعملت طريقة الدّرس أم لا، وشرحت لها الطريقة الثانية المختصرة، لأن طريقة الدّرس كانت بصراحة “معقّدة ولا فائدة من ورائها”!
لكن جاء جوابها الصّادم: “خطأ. أعيدي الجواب بطريقتي” وسكتت!
كنت واثقة من صحة الجواب لدرجة أنني لم أسكت، كرّرت من جديد أن هناك طريقة أخرى للجواب والنتيجة صحيحة 100%. لكنها بدأت تصرخ بطريقتها المعتادة وقالت لي بصوت عالٍ ما معناه: “لا تذهبوا للدروس الخصوصية وتأتوا إلى قاعتي لتمثيل دور العباقرة!”
كان موقفًا جعلني أكره حضوري في تلك اللحظة، وعرفت أن أي ردّ فعل آخر مني سيجعلني أنا المخطئة لا هي!
تركتها تشرح لهم بطريقتها، ولم يكن يتفاعل معها أحد. أكملت الحديث لما تبقى من وقت وخرجت، لتغيب مرة أخرى.
منذ ذلك اليوم لم أجِب عن أي من أسئلتها، وبما أن أي جواب في امتحانها كانت نتيجته أقل من 5 وتظن أننا أغبياء فوق كلّ ذلك، فإنه حتى امتحاناتها لم أعد أهتم لها.
ولكي تقوم بتغطية الكارثة التي أدّت إليها، قامت بتوزيع علامات “10/20 و 11/20” في النتائج النهائية التي تذهب للإدارة والوزارة كي لا تلفت الإنتباه إليها، لأنها تعرف أنه من المستحيل أن لا يتجاوز أحد الخمسة نقاط طيلة عام كامل.
الأستاذ الذي أجاب عن كلّ أسئلتي!
طبعًا ليس كلّ الأساتذة مثل أستاذة الفيزياء والكيمياء، التي أتمنى أنها قد أدركت أخطاءها وتداركتها الآن مع الأجيال الجديدة، هناك دومًا نماذج مثالية عن أساتذة رائعين لا يمكن للكلمات أن تصفَهم.
ومن باب المصادفة، كان أستاذًا للفلسفة في نفس السّنة التي كنّا نعاني فيها مع أستاذة الفيزياء والكيمياء.
الفلسفة تُدرس في المغرب أوّل مرة في السنة الأولى الثانوية، لذلك لم أكن أعرف مُحتواها ولا عن أي شيء تتحدث!
دخلت الحصة الأولى بفُضول فقط، ورغم الانطباع السّيء الذي تركته لديّ الحصة الأولى فقد تغيّر الوضع بعد أشهر، حين بدأت أفهم شيئًا فشيئًا مُحتواها، وبدأت أبحث على الإنترنت لأتعرف أكثر على المواضيع التي كان يطلب منا الأستاذ أن نبحث فيها، وقد فعل أفضل ما يمكنه فعله بهذا، حين لم يتقيّد دومًا بالمنهج الدراسي، وترك مساحة من الحرية للنقاش معنا.
مع مرور الوقت بدأت بطرح الأسئلة الكثيرة، عن الفلاسفة، عن فلسفاتهم، عن أسباب تفكيرهم بتلك الطريقة، عن مصدر المعرفة، عن الطبيعة، عن الكون، وعن كلّ شيء كان يخطر ببالي في ذلك الوقت. وكلّما طرحت سؤالاً على الأستاذ كان يُجيب بطريقة تدفعني لطرح سؤال آخر… لأن الفلسفة هي في النهاية كومَة من الأسئلة!
وحتى حينما لم يتوفر على الجواب، كان يأتيني ببعض الكتب المُتخصصة لأقرأها وأفهم بنفسي، كُنت أقرأ كُتبه في أيام قليلة وأكتب رأيي بها وأقدمها له، وهكذا إلى أن قرأت في ذلك العام فقط ما سمح لي برسم طريقي في عالم المعرفة والمُطالعة قبل أن أدخل عالم الرّوايات والنظريات العلمية.
الأسباب التي تجعلني أؤكد على أن هذا الأستاذ نموذجيّ بالفعل متعددة، ومن بينها أنه كان يتعامل مع التلميذ كإنسان يملك عقلًا قادرًا على تقديم أفكار رائعة إن هو وجد الفرصة المناسبة. وتلك الفرصة كانت دومًا موجودة في قاعته. لم يكن يكتفي فقط بما هو مكتوب في الكُتب الدراسية، بل كان يعتمد عليها ليحلّق بنا في عوالم أخرى من المعرفة التي كانت جديدة بالنسبة إلينا.
خلاصة
إنّ نجاح التعليم بوطننا العربي لا يمكن أن يحدثَ دون أو بِمعزل عن المُعلم نفسه، كما أن تربية وتعليم الأجيال تحتاج أكثر من مجرد موظف يتبع تعليمات وزارية، إنها تحتاج إنسانًا حرًّا ومُبدعًا يعرف كيف يتواصل مع روح التلميذ وليس فقط مع ورقة امتحانه!