العلاقة السيكولوجية بين الطالب والمعلم
إذا كان بإمكاننا الحديث عن علاقة بين المعلم والطالب داخل قاعة الدرس، فإن هناك أنواعًا كثيرة من العلاقات التي يمكننا التطرق إليها، والتي حدّدتها الدراسات التربوية المتنوعة التي تصبّ في هذا الميدان.
غير أن هناك جانبًا مهمًّا لا يمكننا إهماله أثناء الحديث عن هذه العلاقة، واستكشاف مميزاتها، والذي هو جانب قد لا يظهر بشكل مادّي في مختلف مراحل وأشكال هذه العلاقة التربوية بين الطالب والمعلم داخل قاعة الدرس، إنه الجانب السيكولوجي.
1- تعريف العلاقة السيكولوجية:
يمكن تعريف العلاقة الاجتماعية، عمومًا، على أنها مجموع الرّوابط التي تسمح للفرد بالاندماج في المجتمع. هناك قواعد وأنظمة وقوانين تنظّم هذه العلاقات الاجتماعية دون الحاجة لأن تكون قواعد مكتوبة على شكل قانون معين.
وبالتالي تختلف العلاقات الاجتماعية من مجتمع لآخر باختلاف ظروفه ومميزاته وعاداته وتاريخه المشترك.
إذا كان هذا هو تعريف العلاقة الاجتماعية، فإن العلاقة السيكولوجية سوف تكون أكثر عمقًا وتركيبًا أيضًا، لأنها تضع أهم مكوّنات الشخصية الإنسانية في تفاعل فيما بينها داخل وسط يتكون من أفراد يتميز كلّ واحد منهم بشخصية مختلفة عن الآخر.
حاول العديد من علماء النفس تفكيك مكونات الشخصية الإنسانية، وخرج كلّ منهم بنظرية سيكولوجية مختلفة. تحدّث فرويد مثلاً في نظرية التحليل النفسي عن وجود ثلاث مكونات أساسية للشخصية وهي: الأنا والأنا الأعلى والهو. هذه الأجزاء الثلاثة يتميز كلّ منها بخاصيات مختلفة.
مثلاً يعتبر “الأنا” الجزء المسؤول عن تحقيق التوازن النفسي للفرد بداخل مجتمعه، وهو مرتبط بالواقع والمحسوس، أما “الهو” فهو مرتبط أكثر بالغرائز ولا يهمه سوى تحقيق اللذة دون الانتباه للقواعد والعادات الاجتماعية، ثم يأتي دور “الأنا الأعلى” الذي يخصّ الأخلاقيات والمبادئ والمثل العليا، والذي يلعب دور المراقب الذي لا يسمح للـ”هو” بتحقيق كلّ ما يريده.
في جانب آخر، تحدث عالم النّفس “يونغ” عن كون الشخصية الحالية للإنسان ما هي إلاّ نتاج للشخصية التي تميّز بها أسلافه. أي أنه قام بتحديد أهم مميزات الشخصية عن طريق الاعتماد على الماضي، وهنا يركز على الدور الذي تلعب الصفات الوراثية في تحديد ما سيكون عليه الإنسان.
ما يمكن أن نخلص إليه هو أن “أي علاقة بشرية هي مرتبطة بالضرورة بالخصائص الشخصية للأفراد، بالماضي الذي كانوا يعيشونه، بثقافتهم، بالمستوى التعليمي الذي وصلوا إليه”.
يقول جاكسون براون في كتابه “إرشادات موجزة للحياة”: تذكّر أن كل شخص تقابله يخاف من شيء ما، ويحب شيئًا ما، وقد فقد شيئًا ما.
وهذه المقولة العميقة تؤكد على أن الإنسان ليس هو فقط ما يبدو عليه من الخارج. إن الإنسان هو بنية سيكولوجية معقّدة يمكن محاولة فهمها لكن لا يمكن أبداً حصرها وَ إخضاعها للحتمية لأنها ليس موضوعًا للدراسة العلمية المادية.
2 – أهمية العلاقة السيكولوجية بين المعلم والطالب:
إن الوسط التعليمي هو وسط اجتماعي بالدرجة الأولى، حيث أنه يجمع أفرادًا مختلفين تحت سقف واقف ويجمعهم هدف واحد: التعليم.
لذلك فإن مجرد فعل الحضور لقاعة الدرس يوميًا هو أهمّ وأوّل عقد اجتماعي يمكن أن يلتزم به الفرد، رغم أنه لا يحتاج توقيعًا ماديًا على بنود وشروط وقواعد محددة مسبقًا: إن كل مؤسسة تعليمية لديها نظام داخلي تُلزم به أي طالب قرر أن يكمل دراسته بداخلها.
لقد تحدثنا عن كون الهدف المشترك بين الطالب والأستاذ هو التعليم، وهذا معناه أن أحد الطرفين يحرص على الحضور كي يلقّن دروسًا، والآخر كي يتعلم منه. غير أنه غالبًا ما يتم حصر هذه العلاقة في الجانب التعليمي وإهمال الجانب السيكولوجي الذي يعتبر المحدد الأساسي للجواب على السؤال الذي يهمّ كلا الطرفين: هل سيتحقق الهدف من هذا العقد الاجتماعي أم لا ؟
غالبًا ما تدعونا المؤسسات إلى ترك الجانب الشخصي خارجها قبل الدخول والتفاعل مع أعضائها وثقافتها، وتحاول وضع قوانين صارمة يجب الالتزام بها لأنها في نظرها الطريق الوحيد الذي يمكن أن يؤدي إلى تحقق الهدف من هذه التفاعلات الاجتماعية. غير أنه من الصعب على الإنسان أن ينسى من يكون حين يجد نفسه وسط مجموعة مختلفة عنه.
أما داخل قاعة الدرس، فتلعب التجارب الماضية للطالب دورًا مهمًّا في تحديد سلوكياته وطريقة تعامله مع زملائه. ومهما حاول نزع رداء الشخصية التي تميزه كي يندمج مع الآخرين في إطار قانون واحد، فإنه لن يتمكن من ذلك، ببساطة لأن الشخصية ليست رداءً نلبسه متى نريد وننزعه متى نريد.
هناك أيضًا عامل الذكاء الذي يميز طالبًا عن غيره، لا يمكن أن نجد نفس ردود الأفعال ونفس التجاوب من طالبين يملكان قدرات ذهنية مختلفة.
وبالتالي فإنه من الخطأ إهمال الجانب الشخصي للطلبة في هذه العلاقة، وبدل أن يتم تكثيف الجهود على محاولة فهم هذا الجانب والتعامل معه بشكل يحدّ من الصراعات التي يمكن أن تقوم داخل قاعة الدرس ويرفع من قدرة كلّ طالب على تقديم أفضل ما لديه، فإن المؤسسات تبذل جهودًا مضاعفة في محاولة فرض نظام واحد لا يأخذ بعين الاعتبار هذه الاختلافات ويعتبر الإنسان مجرد آلة يجب عليها أن تطبّق ما نطلبه منها، وكنتيجة لذلك، لا تصل لأية نتيجة.
3 – دراسة حالة افتراضية:
لنأخذ مثلاً حالة طالب يدعى “أحمد”: لدى هذا الطالب رغبة جامحة في التعلم، ولا ينقصه التحفيز أبدًا، إذ يبذل جهودًا مضاعفة كلّ يوم كي ينجز فروضه المنزلية، مشكلته الوحيدة هي الصراعات العائلية التي يعيش وسطها منذ كان طفلاً، أثرت فيه هذه الحالة الاجتماعية لدرجة أن جهازه النفسي أصبح هشًّا جداًّ ولا يتحمل أدنى محاولة للمس به أيًا كان الهدف من ورائها.
ما يحدث في الواقع أن “أحمد” رغم جهوده لا يستطيع التركيز فيما يفعله، فهو لا يجد صعوبة في فهم ما يقوله مدرّسه داخل قاعة الدرس، غير أنه ما إن يطلب منه إعادة الشرح أو الحديث عن ما أنجزه في المنزل، لا يستطيع ذلك، ويجد صعوبة في التواصل مع الأستاذ وزملائه، وفي كلّ مرة يطلب منه الأستاذ تقديم أعماله يواجه بالصمت المطبق من هذا الطالب، ويقوم المعلم بتوبيخه، وتلقينه درسًا أخلاقيًا ظنًّا منه أنه يعتمد على الغش كي ينجز فروضه.
عندما كان أحمد يبذل جهدًا في البداية لم يواجه التحفيز أبدًا، على العكس من ذلك كان يعتبر مخالفًا لقوانين اللعبة داخل قاعة الدرس لأنه لا يستطيع فعل ما يفعله زملاءه ولا يجيب على أسئلة الأستاذ.
الأخطر من ذلك أنه مع مرور الوقت أصبحت تتكون لدى هذا الطالب رغبة في المقاومة، وهي سلوكيات عدوانية تزداد حدّاتها مع كلّ ردّ فعل صارم من المعلم. وعندها يتحول الطالب الذي كان يدخل ويلزم الصمت وينجز فروضه إلى مُهمل يرغب في إزعاج المعلم عن قصد كي يثبت أنه لم يكن يستحق تلك الطريقة في التعامل.
إن هذه الصرامة التي يعتمدها الأستاذ أو المعلم هي ما نتحدث عنها. نلاحظ أنه لا توجد أية محاولة من المعلم لفهم طالبه، لا يوجد حوار هامشي أبدًا بينهما. هناك فقط علاقة مبنية على واجبات وحقوق بطريقة آلية لا مكان فيها للعلاقات البشرية والتواصلية.
4- مشكلة انعدام التواصل:
إذا لم يكن هناك تواصل بين الطلبة والمعلمين فإنه لا يمكن الحديث عن علاقة تربوية على الإطلاق.
التواصل يفتح الباب أمام عملية فهم الآخر، ولكي نتعامل مع هذا الآخر يجب بداية أن نفهمه، وإلا فكيف يمكننا أن نتحدث عن أهداف تعليمية من كلّ حصة إذا كنا نلقّن الطلبة دروسًا وننتظر منهم تفاعلاً بنفس الدرجة من الذكاء ونفس الدرجة من الجهد والتحفيز؟
5 – مشكلة السّلطة:
إذا اعتبرنا أن قاعة الدرس سجن ندخله لكي نتلقى دروسًا من معلم يعتقد أنه رجل السّلطة الذي يملك القدرة الكافية ليفرض ما يريده على الطالب ويخرج عندما ينتهي الوقت المحدد لذلك، فإننا لا يمكن أبدًا أن نساهم في الوصول إلى الأهداف المرسومة، كما أن الدكتاتورية تقتل الدولة على المدى الطويل فإن سُلطة المعلم تحطم المنظومة التربوية على المدى الطويل أيضًا.
6 – مشكلة انعدام هامش الحرية:
عندما يتم تقليص هامش الحرية واكتفاء المعلم بتلقين دروس بطريقة تقليدية فإنه يساهم -دون أن يقصد ذلك -في تكريس نوع من الخمول والكسل الذي ينتقل بسرعة بين الطلبة الذين يجدون أنفسهم أطرافًا غير فاعلة على الإطلاق في ساحة اللاعب الوحيد فيها هو المعلم.
7 – بعض الاقتراحات الممكنة:
ما يجعل من هذه المشاكل السالفة الذكر مشاكل متعلقة بالجانب السيكولوجي أنها لا تتكون إلا انطلاقًا من الجهاز النفسي للطالب والمعلم، حيث يقوم كلّ طرف بتلقي المعلومات التواصلية التي تصله من المحيط التعليمي، وبعد ذلك يحاول تحليلها انطلاقًا من عناصر تخصّ شخصيته هوَ، وبعد هذا التحليل الذاتي بالفعل، يقوم بإنتاج ردّ فعل أو استجابة تكون إما موافقة أو مخالفة لما كان ينتظره الآخر.
وهذا النوع من المشاكل يمكن تفاديه عبر :
– فهم أن الطالب أو المعلم هو إنسان يتميز بشخصية منفردة قبل أن يكون مجرد طالب أو معلم، وبالتالي فالتعامل معه يجب أن يبنى على أساس الرغبة في المعرفة، لأجل تدبير الاختلافات الفردية التي تتعلق بالظروف الشخصية، وهذا لا يمكن إنكاره أبدًا.
– يجب أن تبنى العلاقة بين الطالب والمعلم على أساس من المشاورة والنقاشات التي تهدف إلى الوصول لأرضية حوار مشتركة، تتحقق خلالها أهداف الأطراف كلها بأقل الخسائر السيكولوجية والمادية الممكنة.
– الإطلاع على أهم “الألعاب السيكولوجية” التي يقوم بها الفرد دون وعي منه، مهمّ جدًا لإدارة أية علاقة تربوية بين طالب ومعلم، هذه الألعاب السيكولوجية هي مجموع المواقف التواصلية التي يوضع فيها الإنسان، ومجموع الخيارات التي يتخذها للاستجابة في مقابل كلّ موقف، فالألعاب السيكولوجية تساهم في فهم دوافع الآخر، وأسبابه وظروفه، وبالتالي تجعل من الممكن التحكم في مآل العلاقة، حيث تعتبر فنّ الرّد بالجواب المناسب في الموقف المناسب مع فهم ما لا يقال أثناء التواصل التربوي أو الاجتماعي داخل قاعة الدرس.