في انتظار خطاب هوجوورتس
من هي الشخصية الأبرز التي أثرت في ثقافة جزء كبير من جيل أواخر الثمانينات والتسعينات بأكمله وتعليمهم؟
الإجابة هي: جي كي رولينج.
لم أفكر كثيرًا عندما تم طرح موضوع قضية هذا الشهر عن الشخصيات التي أثرت في التعليم، وهناك الآلاف من العظماء الذين يمكن ذكرهم في هذا الشأن، لكن جي كي رولينج تمثل بالنسبة إليَّ التأثير المباشر بعيدًا عن الشكل التقليدي للمُعلمين والمدارس الحالية.
هذه المرأة التي قدمت لنا الواقع بكل تفاصيله المؤلمة والسعيدة داخل جدران مدرسة هوجوورتس التي طالما حلمنا بالحصول على خطاب القبول بها.
على مدار 7 روايات ملحمية، استطاعت جي كي رولينج أن تجذبنا لعالمها السحري حيث الصغير اليتيم هاري يكتشف حقيقة كونه ساحرًا ذا شأن عظيم.
بعد حادثة قتل أليمة تعرض لها والداه على يد الساحر فولدمورت المُلقب بـ سيد الظلام، استطاع هاري النجاة بأعجوبة وسر لا يستطيع أحد تفسيره حتى الآن، فاختفى سيد الظلام، وتَوَّجَ السحرة هاري بالبطولة والعظمة، وهو ما يزال في سَنَتِه الأولى لا يدرك ماذا يحدث حوله، ولا يعلم القادم الذي يخفيه له المستقبل بعد موت والديه وتركه في عهده خالته (بتونيا) التي لا تطيق سماع سيرة أختها (ليلي) التي كانت محل إعجاب وفخر العائلة، لأنها ساحرة، أما هي فلا.
استطاعت جوان رولينج أو (جي كي رولينج) أن تمنحنا نظرة كاملة إلى الحياة من خلال عرض قيم الصداقة والحب والسعادة التي ساعدت أبطال عالمها على تخطي قوى الظلام.
لم يكن هاري بطل الرواية الوحيد في رأيي، كل فرد في هذا العالم كان لديه دوره المؤثر والذي لم تُغفِل جوان أي تفاصيل بشأنه، ربما لم ننتبه إليها في البداية لنكتشف لاحقًا أهميتها الكبيرة وربما الصادمة في بعض الأوقات.
كتبت جي كي رولينج روايتها بتأثر واضح بواقع الحياة التي عاشتها، يمكن معرفة ذلك بسهولة من خلال كمية المشاعر التي تفيض علينا بتفاصيل تلمسنا، وتجعلنا نشعر أن هاري ورون وهرميوني وغيرهم من أبطال الرواية ليسوا بعيدين عنا.
جوان أم جي كي؟
من هي المرأة التي استطاعت جمع كل هذه المشاعر والأفكار المعقدة وتقديمها في هذا الشكل البسيط لجيل كامل من الأطفال كبر مع هاري وأصدقائه عامًا بعد عام، وخاضوا معهم كل معاركهم ضد مخاوفهم وحقائقهم المظلمة قبل أن يخوضوها ضد سيد الظلام في المعركة الأخيرة!
ولدت جوان رولينج أو جي كي رولينج في تشيبنج سوبري في جنوب جلوسترشير، المملكة المتحدة بتاريخ 31 يوليو 1965 لـ بيتر جيمس رولينج الذي عمل مهندسَ طائرات، وآن فولانت اللذَيْن تقابلا للمرة الأولى على متن قطار متجه إلى إبروث من محطة كينجز كروس، وهي المحطة الشهيرة التي كانت تنقل هاري وأصدقائه كل عام إلى هوجوورتس.
لم تكن حياة جوان سعيدة أو مثالية بأي شكل، بل بمكن حتى إطلاق لقب المأساوية عليها. كانت إنسانةً عادية، وفي مرحلة دراستها الثانوية عانت من المشاكل النفسية بسبب مرض والدتها وسوء علاقتها مع والدها، وذكرت أنها في هذه الفترة كانت تشبه شخصية هرميوني بشكل كبير، ولكنها لا تفخر بذلك، فلم تكن شخصية مميزة، لكنها كانت فتاة ذكية على حد ذكر أحد معلميها ومن هذه الفترة أيضًا استلهمت شخصية رون ويزلي من أقرب أصدقائها آن ذاك.
وبعد أن فشلت في الالتحاق بجامعة أوكسفورد، التحقت بجامعة اكستر لدرسة اللغة الفرنسية، وعلى الرغم من شهادة أستاذة اللغة الفرنسية في جامعتها بأنها كانت جادة وملتزمة تجاه دراستها الأكاديمية، إلا أن جوان تختلف معها في هذا الرأي حيث ترى أنها لم تكن تفعل أي شيء مهم في هذا الوقت، وبعد تخرجها انتقلت إلى لندن لتعمل باحثةً وسكريتيره في منظمة العفو الدولية.
في سنة 1990 أثناء رحلة على متن قطار متجه من مان شستر إلى لندن جاءتها فكرة لكتابة قصة عن طفل صغير يرتاد مدرسة للسحر، وبدأت الفكرة تتبلور بالكامل في عقلها دون أن تدرك جوان السر وراء هذه الأفكار المتدفقة، وعن هذا الموقف تذكر جي كي رولينج على موقعها: “كنت عائدة إلى لندن على متن قطار مزدحم، وجاءتني ببساطة فكرة هاري بوتر. كنت أكتب بشكل متواصل من سن السادسة حتى الآن، إلا أنني لم أتحمس لفكرة بهذا الشكل من قبل. لكني شعرت بخيبة أمل كبيرة؛ لأنه لم يكن لدي قلم حبر جاف وكنت أشعر بالخجل من أن أستعير واحدًا … لم يكن لدي قلم يعمل جيدًا، لكن ربما كان هذا شيئًا جيدًا؛ ببساطة، جلست وأخذت أفكر لأربعة ساعات، الوقت الذي تأخر فيه القطار، وبدا يتفتق ذهني عن أفكار، وهذا الصبي النحيل أسود الشعر الذي يلبس نظارات طبية، ولم يكن يعرف أنه ساحر، بدأ يصبح حقيقيًا أكثر وأكثر بالنسبة لي. وفي الأمسية نفسها، بدأت أكتب حجر الفلاسفة، بيد أن الخمس صفحات التي كتبتها لا تشبه هذا الجزء بعدما انتهيت منه”.
في ديسمبر من العام نفسه الذي بدأت فيه جوان كتابة قصتها، تُوفيت والدتها بعد معاناة من المرض استمرت لـ 10 أعوام، وكان لهذه الحادثة أكبر الأثر على نفسها وتأثير أكبر على الرواية حيث أدخلت تفاصيل جديدة عن شعور الخسارة عند هاري في الجزء الأول من السلسلة.
انتقلت جوان بعد ذلك إلى البرتغال، وهناك تعرفت على زوجها الأول ووالد طفلتها جيسيكا، وبعد زواج عانى من المشاكل والعنف دام لمدة 13 شهرًا، انفصلت عن زوجها وعادت لتعيش بالقرب من أختها في اسكتلندا مع طفلتها و 3 فصول من الرواية في حقيبتها وكان هذا في سنة 1993.
شعرت جوان بأنها أكثر شخص فاشل على وجه الأرض، فهي عاطلة عن العمل وأم عزباء لطفلة لا تعرف كيف تعولها، لكنها وصفت هذا الفشل بالحرية وذكرت:
“عنى لي الفشل التخلص من كل ما هو غير ضروري. توقفت عن القول لنفسي أنني أي شيء آخر عما أنا في الحقيقة، وبدأت أوجه كل طاقتي لإنهاء العمل الوحيد الذي كان يهمني. إذا كنت نجحت في أي شيء آخر، ربما لم أكن لأعثر على التصميم على النجاح في المجال الوحيد الذي انتميت إليه حقًا. قد تحررت؛ لأن ما كنت خائفة منه تحقق، وكنت لا أزال في قيد الحياة، ولا يزال لدي ابنة أعشقها، وآلة كاتبة قديمة وفكرة كبيرة؛ وهذا شكَّل أساسًا صلب لأعيد بناء حياتي عليه”.
لمدة اقتربت من العامين عاشتهما جوان على الإعانات الاجتماعية، عكفت جوان على الانتهاء من روايتها، في فترة شهدت إصابتها بالاكتئاب السريري، وتفكير في الانتحار، وهو ما ألهمها بعد ذلك في الكتابة عن كائنات الديمنتورز التي ظهرت في الجزء الثالث من الرواية، والتي تمتص السعادة من روحك وتشعرك أنه لا يوجد أمل باق في هذا العالم. وفي سنة 1995 انتهت أخيرًا من كتابة مسودة الجزء الأول (هاري بوتر وحجر الفيلسوف).
عالم سحري جديد
قدمت جوان نسختها الأولى من الرواية إلى 12 دار نشر، رفضوا جميعًا نشر الرواية، وبعد عام كامل جاءتها الموافقة من دار نشر بلومزبري، بعد أن قامت الطفلة آليس نيوتن ابنة صاحب دار النشر ذات الثمان سنوات، بقراءة الرواية والتي أعطاها والدها إياها لتمنحه رأيها فيها، فأنهتها وطلبت الجزء الثاني فورًا لقراءته. صاحَبَ هذه الموافقة شرطٌ، وهو أن تقوم الدار بالنشر تحت اسم مستعار للكاتبة وهو (جي كي رولينج) لأنه الأطفال الذكور ربما يعزفون عن قراءة الرواية عند علمهم بأن كاتبة الرواية امرأة، وهم لا يعرفون أن مشاعر هذه المرأة والمواقف التي عاشتها بكل آلامها هي السبب الأهم في أن تخرج لنا هذا الكنز من الإبداع والسحر.
في سنة 1997 انتقل السحر إلى عالمنا بعد نشر أول رواية من السلسلة، وتوالى النجاح على جوان، وبدأنا نحن في بناء عالمنا السحري عامًا بعد عام حتى أصبحنا جزءًا منه، وأصبح جزءًا منا لا يمكن الانفصال عنه، ووصفنا أنفسنا بالـ Potterheads وأصبحنا نردد العبارات والجمل والرموز الشهيرة في الرواية فيما بيننا للتعبير عن انتمائنا للفكرة وللعالم الذي خلقَتْه لنا جوان، وكانت سخية للغاية في سرد كل تفاصيله، حتى لم تترك لنا فرصة للتساؤل عن معلومة تخصه.
حققت الرواية أرقامًا قياسية في عدد النسخ المبيعة والأرباح العائدة منها، وتلاها بعد ذلك تحول الرواية إلى واحدة من أنجح وأشهر سلاسل الأفلام السينمائية، وأصبحت جي كي رولينج أول كاتبة مليارديرة، وحازت بدورها على العديد من الجوائز الأدبية على أجزاء الرواية المختلفة.
لم تُنْسِ الشهرة جي كي رولينج آلامها ومعاناتها السابقة، فكانت أعمالها الخيرية وسعيها ونشاطها في العديد من القضايا الإنسانية خاصة تجاه مرض التصلب المتعدد (مرض والدتها) ورعاية الأمهات المعيلات، خير دليل على رغبتها في القضاء على المعاناة التي عاشتها قديمًا.
وفي سنة 2001 تزوجت جي كي رولينج للمرة الثانية وأنجبت طفلين آخرين، وحظيت بحياة زوجية وأسرية أكثر سعادة من التي عاشتها في تجربتها الأولى.
ربما تمنح الأموال والجوائز بعض المواساة لما نتعرض له من آلام وصعوبات، لكن المواساة الأكبر هي في الحُب الذي يغمرنا ويمنحنا السعادة الأبدية بعد سنوات من ألم الفراق والحزن والفشل.
وفي اعتقادي أن مواساة جي كي رولينج الحقيقية في حب ملايين الأطفال الذين غدوا شبابًا وما زالوا يدينون لها بالفضل في بناء عالم أصبحنا ننتمي إليه، ويمنحنا بدوره القوة في مواجهة مخاوفنا والظلام من حولنا.
لم تدرسنا جي كي رولينج في المدرسة حرفًا واحدًا، لكنها جعلتنا جميعًا تلاميذ في عالمها السحري، وما زلنا رغم مرور السنين في انتظار خطاب القبول من هوجوورتس.