فِي تَدْرِيسِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَجْوِيدًا وَتَفْسِيرًا – الْقِسْمُ الثَّالِثُ
استكمالًا لمقترحِ ترتيبِ تدريسِ مهاراتِ الأحكامِ التجويديةِ على أساسِ شيوعِ الأحكام في الأداءِ، وترتيب ورود كثرتها في المصحف على ترتيبه، مع مراعاةِ البَدء بالأسهل، والتدرج من الجزءِ إلى الكلِّ، كان قد مَرَّ بنا حكمان: الأول: حكم الميم والنون المشددتين، والثاني: حكم المد الواجب المتصل، وبعد ذلك يأتي:
الحكم الثالث: المد الجائز المنفصل:
ويُقترَح أن يكون بعد الحزب الأول؛ فيشرح الشيخ الحكم، ويطبق عليه، وهنا سيقابل الطالب لأول مرة أن وجْهَ مَدِّه خمسة حركات لم يوردْه الإمام أبو القاسم الشاطبي في “الشاطبية” ولكنه موجود لحفص عن عاصم في “التيسير” لأبي عمرو الداني، والشاطبية نَظْمٌ للتيسير، فتُولَدُ أسئلةٌ مهمة في عقلِه، عليه أن يُحسن صُحبةَ هذه الأسئلة التي سيعرف إجاباتها لاحقًا، وبهذا يتعلم الطالب أنه ليس كلُّ ما يعلم يُقال، ولا كُلُّ ما يُقال حضر رجاله، ولا كل ما حضر رجاله حضر أوانه، وأن عليه أن يتعلم الصبرَ، ولا يبادرَ بكل ما ينقدحُ في ذهنه من أسئلة، فإن العلم يؤخذ قرارًا لا خَطْفًا.
وأرى ألا يتعرض الطالب لطريق الطيبة إلا بعد أن يختم بالشاطبية والدرة العشرة كلها، فلا حاجة لقصر المنفصل إذن؛ لما ينبني عليه من أحكام أخرى كثيرة تلزمه، ولم تُبَيَّنْ هذه الأحكام في المصحف الشائع بين المسلمين الآن، وهو مصحف المدينة المنورة؛ لأنه مبنيٌّ على طريق الشاطبية، وكذلك أكثر مصاحف العالم الإسلامي قبل مصحف المدينة.
وسيجد الشيخ في ذلك فرصةً لفتح عينِ الطالب على طبعات المصحف في الأمصار المختلفة، مثل ما يقع من طريقة كتابة التُّرْكِ كتَرْكِ الهمزات، كما في مصحف حامد الآمدي.
ويقرأ مع الطلاب “التعريف بهذا المصحف” الذي يكون في آخره؛ ليتعرف الطالب إلى بعض التفاصيل الخاصة بخط المصحف، وإِذْنِ طباعته التابعِ للَجْنَةِ مراجعة المصاحف بمجمع البحوث الإسلامية التابع لمشيخة الأزهر الشريف القاهرة، وكذلك مجمع طباعة المصحف بالمدينة المنورة، وبعض الفروق بين مصاحف الملك فهد والملك عبد الله مثلًا في الوقف والوصل، والأمور الأخرى، لتثور أسئلةٌ مهمةٌ في رأس الطالب عن الثابت والمتغير، أو التوفيقي والتوقيفي في المصاحف، وهو باب كبير سترتوي غُلَّةُ الطالب منه لاحقًا.
ويقترح على الشيخ لو وجد همة من الطلاب أن يستعرض معهم سائر أنواع المد، فلو لم يأْنَسْ منهم ذلك، أخَّر ذكر ذلك إلى حين وروده في الآيات.
ويُقَدَّر لهذه المهارة أن تكون سجية عند الطالب مع نهاية حفظه للحزب الأول من الجزء الثاني في القرآن العظيم.
الحكم الرابع: الإقلاب:
وهنا جاء موعد أحكام النون الساكنة والتنوين، والأَوْلى عدم البدء بالإظهار كما هو شأن كتب التجويد، إذ الإقلاب أسْهَلُ لارتباطه بحرف واحدٍ، هو الباء، ويتعلم معه الطالب هيئةً مخصوصةً في الأداء، هي نفسُها هيئةُ الإخفاء الشفوي، فيكون جهده بعد ذلك في تعلم الإخفاء الشفوي للميم في الباء هو التفطن لموضعها فقط.
ونُقَدِّرُ لهذا الحكم أن يكون بعد نهاية الربع الثاني من الجزء الثاني من القرآن، على أن الطالب كان مُلزمًا بالإتيان به فيما سبق من آيات، لكنه هنا يتعلم ما اسمه؟ وما الذي حصل فيه؟ وما الوصف الدقيق لحال الشفتين فيه.
ولقد أخبرني الشيخ ناجي رشوان أنه سمع الشيخ عبد الحكيم عبد اللطيف –شيخ عموم المقارئ المصرية- يقول: إنه قرأ على مشايخه بالوجهين وقبلوا منه، والمقصود أنه قرأ بإطباق الشفتين بلا ضغط عليهما، وقرأ بإطباقهما مع ترك فُرْجَة صغيرة جدًّا لخروج الهواء.
والفقير إلى الله يُقرئ بالأول.
الأحكام الخامس والسادس والسابع: الإدغام فالإظهار فالإخفاء:
وهذا لأن الإدغام[1] بضد الإظهار، والإظهار الأصل في كل الحروف، ثم يأتي الإخفاء، وفيه تنوع كبير بين إخفاء النون الساكنة والتنوين فيما بعدها، حيث يختلف الأداء جدًّا بين إخفائها في الصاد أو السين، والتاء أو القاف، كما أن عدد حروفه هو الأكثر، وهو خمسة عشر حرفًا؛ ولذلك يحبذ تأخيره، ويُتوقع إتقان الطلاب له مع نهاية حفظهم لسورة البقرة.
وهنا يقترح على الشيخ أن يعقد امتحانًا في الفاتحة والبقرة معًا، مع ما دَرَسَ من معاني الكلمات وأسباب النزول، وأن يقوم بالامتحان غيره أيضًا، كما هو الحال في الامتحان السابق.
وكذلك بعد الامتحان يعقد لطلابه درسًا ثقافيًّا آخر، يتناول فيه متنَ تحفة الأطفال، فيشرح ما مر من أحكام فيه بنفسه، لا بقراءة شرح مكتوب، بحيث يكون البناء النظري مكتملًا عندهم عن الأبواب عمومًا، ويُنَبِّهُ الشيخ على ترك باب مخارج الحروف وصفاتها للجَزَرِية، التي سيتناولها في الدرس الثقافي القادم الذي بعد انتهاء الشباب من حفظ الجزء الثالث.
وعليه هنا أن يبين معنى تعريف علم التجويد، والفرق بين حقِّ الحرف ومستحَقِّه، ومراتب التلاوة الأربعة:
- التحقيق،
- والترتيل،
- والتدوير،
- والْحَدْر.
ومن فائدة ذلك انفتاح الطلاب على ما يسمى “بالقرآن المجوَّد” أو “الحفلات القرآنية” وهذا يجعل للطالب ذوقًا أرقى يسمح له بالاقتراب من عالم الصوت والنغم واللَّحْن، وهو معصوم بالاقتصار على المشايخ الخمسة، ومما يربي عنده ملكات جديدة بالسماع، تطهر ما علق بأذنيه من قراءة المتصدرين الحمقى الذين لا يصح صلاتهم ابتداءً، وهم كثر، وقد ورد في الحديث: “اقرؤوا القرآن بِلُحُون العَرَب وأصواتها…”.
وللشيخ أيضًا أن يُبَيِّن للطالب حكمَ الوَصْل بين السورتين، وهذه مناسبة جيدة؛ لأنه سيجد هنا حكمًا آخر هو الوصل بين الآية الأولى والثانية في سورة آل عِمران، وهي حالة فريدة في الرواية كلها؛ فيغطي ذلك، فيتعرف الطالب كيف يقرأ وجهين لحفص، وكيف يقف بعد الوجه الأول؛ ليقول: “حفصٌ بخُلْفٍ عنه” ثم يقرأ الوجه الآخر؛ فيقف، ويقول: “خُلْفُ حفص” وكأنه يجهِّزُ نفسه لقراءة العشرة جمعًا، ولا بأس من استعراض الشيخ للطالب قراءات متعددة لآيةٍ تشويقًا لهم وحَفْزًا لِهِمَمِهِم.
وأفضل شرح رأيتُه لتُحْفَةِ الأطفال هو كتاب “التحفة العَنْبَرِية” للشيخ محمود رفاعة عَنْبَر الطَّهْطَاوِي، ولا يُستعمل منه إلا الوَرَقِي، أو المصوَّر عنه حاسوبيًّا، فإنَّ إعادةَ كتابةِ الكتاب على الحاسوب تَضُرُّ بمادَّتِه أو بموثوقيته أو بكلَيْهِما.
ويستعاض عنه بكتاب “غاية المريد إلى علم التجويد” للشيخ عطية قابل نصر، والأول أَوْلَى، لكن الثاني تعرَّضَ لمخارج الحروف وصفاتها فكان أشملَ، ولا أظنُّ مكتبةَ المسلم المثقَّف غيرَ المتخصص في القراءات تحتاج إلى أكثرَ مِن هذين الكتابين.
درس مخارج الحروف:
إلى هنا –أي: نهاية آل عمران- يكون الشيخ قد عَدَّلَ لكل واحد من الطلاب ما يخطئ فيه بخصوصه من مخارج الأصوات، ولكن يحتاج الطلاب لدرس مستقل لمعرفة ما يأتونه صحيحًا وما يأتونه خطأ، فيقوم الشيخ بشرح صفات الأصوات أوَّلًا ثم مخارجِها في درس ثقافي واحد مستقلٍّ، يختمه بقراءة الْجَزَرِيَّة ويشرَحُهَا بنفسه، ويكون بهذا قد أقرأ طلابه أهم مَتْنَيْنِ للمبتدئين في هذا العلم؛ لينصرف الطالب من بَعْد حفظهما بكل همه إلى حفظ القرآن فقط، ولا يتوقف إلا بعد إتمام الإجازة الأولى، التي بعدها يَسْتَأْنِفُ الشاطبية عينَها، ما أَمْتَعَها من لَذَّة!
الإجازة الأولى:
للشيخ ألا يجيز أحدًا بهذه الطريقة الجماعية في القراءة؛ لأنها طريقة في التعليم فقط، ولكن بعد أن يقطع بطلابه شوطًا طويلًا كعشرة أجزاء أو خمس عشرة جزءًا يقترح عليه أن يفرد لطلابه ساعات متصلة قبل الدرس أو بعده ليقرأ طالب بعينه وحده قدْرًا من القرآن لا يقلُّ عن جزأين، ويستمع الباقون إن شاؤُوا، ويكون الضبط للطالب فقط، ويمكنه هنا تسجيل قراءته لمعرفة أخطائه لاحقًا، وبهذا يطمئن الشيخ إلى مستوى الطالب، وقدرته على الأداء الصحيح، وربما احتاج منه أن يقرأ عليه القرآن مرتين أو ثلاثة قبل أن يُجيزه، صونًا للإجازة، وتأكدًا من الدقة، وهكذا كان الأكابر في سَالِفِ الأَعْصَار، وربما احتاج أن يسمع منه رُبُعًا واحدًا مرات، وبعده يتيسر الباقي بفضل الله.
أتذكر جيدًا أني قرأتُ على بعض أشياخي رُبُعًا واحدًا ما يزيد على خمس مرات قبل أن يجيزني، وقرأتُ على بعضهم مرةً واحدةً برواية واحدة وأجازني، وجمعتُ على بعضهم بأكثر من رواية مرة واحدة وأجازني، وإنما العلم بالتعلم، فلا يَطُلْ عليك الطريقُ يا صَاحِ، والحمد لله رب العالمين.
[1] الإدغام بالدال لا بالضاد.