متى نتخلص من هُراء التطور التكنولوجي؟ “عصر السرعة”
هل سمعت من قبل أغنية Run Run للمُغنية الفرنسية “إنديلا؟”
إن كانت الإجابة هي “لا”، أنصحك بسماعها في أقرب وقت، وأن لم تكن تفضل سماع الأغاني، فعليك فقط قراءة الترجمة للكلمات.
السؤال الذي تطرحه “إنديلا” ببساطة في أغنيتها، هو لماذا تجري بدون توقف في محاولة سعيك للجائزة الكُبرى؟
هذا السؤال الذي طرحته على نفسي ببساطة عند مراجعة قراراتي في اتجاه سير حياتي المهنية والتعليمية، ما الذي أسعى إليه؟ لماذا أركض دون توقف ومحاولة فهم؟ لماذا نحن جميعًا كذلك؟
في هذه الحال أنا لا أتحدث عن انعدام الطموح، أو التقليل من شأن الجادين المجتهدين في أعمالهم لتحقيق إنجازات تُفيد البشرية والمجتمع من حولهم ولو بشكل بسيط ومستمر، والبساطة في نظري هي سر العظمة.
هذا الحديث استكمالًا للمقال السابق الذي ذكرت فيه ضيقي من أسلوب حياة العصر الحالي و”الجري دون توقف” وراء أحدث التطورات التكنولوجية وإيهام أنفسنا بأننا أفضل الأجيال وأكثرها حداثة وتطورًا بسبب هذه الوسائل الحديثة، وتطرقت بشكل موسع لنمط الحياة الاجتماعية الذي تغير بشكل كامل بسبب طُرق التواصل الاجتماعية “الافتراضية” وكيف حولتنا من مجموعات من البشر قادرة على التواصل والنقاش في مواجهات مباشرة، إلى مجرد حروف وكلمات ورموز تعبيرية “إيموجي” على شاشة.
عصر السرعة
الآن حان وقت الحديث عن العمل، الطموح، المستقبل، المهن العظيمة التي لا يسعى الجهلاء إلى الالتحاق بركبها لضمان الفوز بالجائزة الكُبرى، وخاصة في مجال التكنولوجيا الحديثة.
قبل أي شيء، أؤمن أن من واجبنا تعلم أساليب وتقنيات العصر الحديث وألا نقف فقط متفرجين، بل مشاركين ومطورين، ولكن حاليًا أصبحت لا أفهم الهدف من السعي وراء التطور التكنولوجي الذي يحدث.
كنا نشاهد في صغرنا أفلام الرسوم المتحركة التي يجلس فيها الأفراد لا يفعلون شيئًا وتقوم أجهزة الروبوت والكمبيوترات بعمل كل شيء بدلًا منهم لنشعر بالانبهار والسعادة لأنهم “مرتاحون” ولا يبذلون الكثير من الجهد لإنجاز الأمور مثلنا، ونتخيل أن مثل هذا السيناريو لن يحدث سوى بعد أن نُصبح في الستين أو السبعين من العُمر، وربما لن يحدث في حياتنا مطلقًا، ولكن ولله الحمد، أصبحنا نسعى سعيًا حثيثًا لتحقيق هذه الصورة قبل أن يبلغ أغلبنا الأربعون من العمر، ونعيش جزءًا كبيرًا من هذا السيناريو الذي رسمناه لحياة ليست بحياة.
الحاجة أم الاختراع
هكذا تعلمنا، أن حاجتنا للشيء تدفعنا لاختراع أداة المساعدة، ولكن ما يحدث حاليًا هو التخلي عن كل مميزاتنا البشرية لصالح الاختراعات الإلكترونية، دون أن نكون بحاجة حقيقية لكل هذه الأدوات التي أزعم أنها تزيد من غباء البشر ونقص قدرة عقولهم على الإبداع كلما اقتربوا منها واعتمدوا عليها.
ما الرائع في الاعتماد على الهاتف/ الساعة/ الكمبيوتر، في تذكيرنا بموعد الاستيقاظ، وشرب المياه، وممارسة الرياضة، وتنفيذ المهام الخاصة بالعمل، ويوم ميلاد أصدقائنا، وضرورة الاتصال بفلان، أين ذهبت ذاكرتنا؟
نلاحق أجهزتنا طوال الوقت لتذكرنا بما ننساه، وشيئًا فشيء تقل قواها، ونتعجب ماذا أصاب جيلنا الحالي، لماذا أصبحنا كثيري النسيان؟
نعم صحيح إنها ضغوط الحياة .. الإجابة الأسهل، لكن ننسى في ظل حالة النسيان المستمر أننا تخلينا عن عمل الذاكرة لصالح الأجهزة.
في ماذا إذن نشغل عقلنا؟
في التنبيهات والمراسلات المستمرة اليومية للتواصل الاجتماعي وتنفيذ مهام العمل، لا نتوقف عن فتح الهاتف حساباتنا الشخصية عدة مرات للاطمئنان على ألا يفوتنا أي تنبيه أو ملاحظة.
منظر مثير للشفقة بحق عندما تجد شخصًا لا يستطيع الحياة بدون جهاز صغير لمدة ساعتين أو ثلاث يوميًا، والكارثة الأكبر حاليًا، هو عدم انتظار شخص ما ليجيبنا عن استفسارنا، بل هناك المجيب الآلي، مع تطور مجال الذكاء الاصطناعي أصبحنا نستمتع بمحادثة الآلات على الهواتف والكمبيوتر ونصنع علاقة اجتماعية جديدة مع المجيب الآلي لا البشر في هذه الحال.
الكل في واحد
حقيقة لا أشعر بالرضا عندما يصبح اعتمادي الكامل في معرفة الطريق على خرائط جوجل، وأتساءل عن سر ذكاء ومدى قوة البشر في الزمن القديم عندما كانوا يحفظون الطُرق في الصحراء الشاسعة، ولا استمتع بالموسيقى المختلفة وهي صادرة من جهاز الكمبيوتر، أتمنى سماعها في حفل، أتمنى العزف بنفسي، وحتى مشاهدة الأفلام، كم أرغب في الذهاب لدور السينما أو الجلوس في جمع من الأصدقاء في أوقات محددة سابقًا نتحدث ونناقش ما شاهدناه.
لا أنتظر هاتفي ليخبرني كم من المياه احتاج للشرب يوميًا، ولا تذكير بموعد الصلاة، وأصبحت أكثر قدرة على تدريب ساعتي البيولوجية لإيقاظ نفسي في مواعيد محددة سابقًا.
لم أعد أطيق الجلوس سجينة شاشة الكمبيوتر، حتى وإن كنت سأجلس لأدرس أو أتعلم عن طريق الانترنت، وأنا أدين بالكثير لهذه المواقع التعليمية الإلكترونية التي أشجع باستمرار على التسجيل بها، لكن ما زلت في حاجة لمجتمع أعيش فيه
أناقش وأتحدث وأعمل بيديّ، وأوكل إلى عقلي وجسدي تنفيذ المهام المختلفة.
خدعونا فقالوا إن التطور الحقيقي في وجود كافة المميزات في جهاز واحد
ومن قال لهم إننا نرغب في ذلك؟!
نرغب في السفر لملاقاة الأحباء والتعرف على المدن الجديدة، نرغب في حفظ الشوارع والأزقة، نرغب في عزف الموسيقى وصناعة الألحان أو على الأقل المشاركة بالتشجيع المباشر للعازفين البارعين سواء كانوا محترفين أو مجموعة من العمال تنشد في وقت استراحتهم، نرغب في أن نشارك متعة التعلم مع من يشاركونا الاهتمام وبذل الجهد في تحصيل العلم.
أصابنا هذا التطور بحالة من الكسل والبلادة في رأيي لم يسبق لها مثيل بين الأجيال السابقة. نعم من العبقرية تطويع كل هذه الآلات لتنفيذ ما نريده، لكن ماذا سيحدث لنا نحن البشر لاحقًا؟
وهل نحن في حاجة لكل هذه المميزات الخرافية في حياتنا؟ يمكننا الاستغناء عنها، والاكتفاء بوجودها فيما يفيد في تطوير الطب أو الهندسة أو الفنون وغيرها من المجالات التي تستطيع الكشف لنا بحق عن حقائق الكون وعظمته، لا أن يصبح مجرد الغرض هو صناع أذكى الآلات واستخدامها في أتفه المهام التي تحرمنا متعة العيش الحقيقية.
الختام
أدين بجزء كبير من دافعي لكتابة هذه الكلمات للرياضيين والحرفيين ووالدتي وكل من هم مثلهم ممن ما زالت لديه القدرة للمحافظة على أكبر قدر من سمات البشر في العمل والإنتاج بيدهم، والاستمتاع بالحياة دون أجهزة وتعقيدات إلكترونية.
الحديث عن التطور التكنولوجي الذي نشهده حاليًا لا يبدو بالبساطة التي أكتب بها، وهناك العديد والعديد من النقاط التي يجب التطرق والحديث عنها، لكن ربما لا تسعني قدرتي حاليًا للكتابة حولها، ولكن في حال اهتمام القارئ فلا يجب أن نغفل دور الاقتصاد والسياسة في دعم مصادر قوتها وتلميعها وتصديرها لنا نحن الشعوب، بالإضافة إلى أن الاعتماد على الآلة أو التنازل عن جزء من مهام البشر لصالحها كان موجودًا منذ مئات السنين، لكن ليس بالصورة المخيفة التي نشهدها حاليًا.
قد تجدني أبالغ، وقد تتهمني بالنفاق لأنني أنقل هذه الكلمات عبر الإنترنت، مستخدمة جهاز كمبيوتر، ولكنني لم أنف أنني من ضمن العديد من البشر الذين وقعوا تحت سيطرة التكنولوجيا الحديثة، وما زلت أسعى للتخلص منها قدر المستطاع.
كل ما أتمناه أن ندرك أننا الأقوى كبشر بمهاراتنا المختلفة، وعقولنا الذكية التي استطاعت على مر السنين إنتاج العلوم والفنون بدون تدخل الآلات بشكل كامل.
لا أرغب أن نصبح كالبلهاء عندما نشاهد شخصًا قادرًا على العزف ولعب الرياضة والعمل والدراسة في وقت واحد، ونشعر أنه البطل في الزمن السريع الذي لا يوجد فيه وقت لممارسة كل هذه الأمور دفعة واحدة.
وحجتنا الدائمة أنه لا يوجد وقت، لذلك يجب أن نستعين بعامل خارجي لإنجاز هذه الأمور بشكل سريع لأننا نحيا في عصر السرعة، حيث مصادر السعادة مُصممة من قبل شركة آبل وسامسونج وغيرهم.
الوقت ما زال في يدنا، وبإمكاننا ألا نجري بسرعتنا الفائقة نحو الجائزة الكُبري، لأن المتعة الحقيقة في اللحظة الحالية، في قدرتنا على صنع ما نُريد الآن، بأنفسنا، باستغلال كل ذرة بشرية فينا، بتواصلنا وتفاعلنا في صورة مجتمع يرغب في تحقيق السلام والعيش الهادئ والسعادة لجميع أفراده، كُل منهم على حدة بطريقته الخاصة.