فكرة

متى نتخلص من هُراء التطور التكنولوجي؟ “التواصل الاجتماعي”

منذ فترة ليست بالقصيرة بدأت أشعر بالضيق من التعامل المستمر مع الأجهزة الإلكترونية بشكل عام، ومع وسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص، وبالفعل قررت أن أغلق حساباتي للتواصل الاجتماعي لفترات طويلة، وعندما أعود لأفتحها أشعر بنفس الضيق، حتى فاض الكيل، وبعد عدة مراجعات وقراءة لواقع حياتي وشكل التعامل مع التكنولوجيا الحديثة، والتفاخر المستمر من جيلنا بأنه الأكثر تطورًا وتفهمًا بفضل هذه التكنولوجيا وهذه الوسائل للتواصل المختلفة عن طُرق تواصل أهلهم، قررت كتابة هذا المقال للتعبير عن أفكاري تجاه هذا الأمر، الذي أراه محض هراء!
فلا نحن أفضل من أهلنا ولا أكثر تطورًا، وحتى في طرق تواصلنا الاجتماعي أصبحنا الأكثر فشلًا بين كافة الأجيال.


تواصل مُزيف

لا أستطيع أن أنكر فائدة التكنولوجيا الحديثة في قدرتها على تقريب المسافات بين البشر في مختلف أنحاء العالم، ولكن هذه التكنولوجيا ظهرت بسبب وجود مشكلة طول المسافات الذي يمنع التواصل السريع بين الناس في الدول البعيدة عن بعضها أو حتى في نفس الدولة ولكن يصعب اللقاء بينهم فكانت هي الحل لتقصير المسافات.

ونحن بالفعل استفدنا من هذا الأمر كثيرًا، كشباب وشيوخ، ولكن ما حدث هو استبدالنا لطرق التواصل الطبيعية، كاللقاء والمراسلات الخطية والاتصال التليفوني -هذا الأخير كان في وقت ما يُعد تدميرًا للعلاقات البشرية بسبب عدم اللقاء المباشر- بالمراسلة عن طريق الهاتف بشكل مستمر.


يحكي صديقي وهو يضحك أن والدته أرادت إخباره بأمر فأرسلت له رسالة على هاتفه بدلًا من أن تذهب إلى غرفته وتحاكيه بنفسها.
هذه الوسائل في التواصل بالفعل قطعت الأوصال بين البشر، فجارتك بجانبك طوال الوقت، ولكن من الأسهل مراسلتها بدلًا من زيارتها، وبدلًا من عمل اجتماع للعائلة أسبوعي أو حتى شهري، أصبحت مجموعات العائلة على واتس آب واحدة من أشهر صيحات التواصل، وما يحدث في الحقيقة هو إرسال الفئة الأكبر سنًا لصور أدعية ومناظر طبيعية، يسخر منها الشباب والأطفال طوال الوقت ولا يعيرون هذه المجموعات اهتمامهم.

الأمر يشبه المُخدر، طالما أرسلت رسالة، أو حتى صورة أو رددت بـ “إيموجي” فأنت على تواصل جيد مع الطرف الآخر، لا يوجد داعي للقاء الآن!

عن أي تطور نتحدث؟!

هذا الأمر الذي نفخر به كثيرًا، بسبب قدرتنا على استخدام بعض الآلات في التواصل، وفي أغلب الأوقات يصبح مصدر استعلاء مريض على أهلنا، وسخرية منا في طريقتهم عند استخدام هذه الوسائل!
يجب أن ندرك بصفتنا متطورين أن نتقبل طريقة كل فرد في التعامل والتعبير عن نفسه، هذا كبداية، أما الأمر الآخر الذي اكتشفته مع الوقت بأن أهلنا يتعاملون بطريقة أكثر تهذيبًا مع التكنولوجيا بشكل افتقدناه في تواصلنا الافتراضي، والواقعي.


قبل أن تُرسل لي أمي أي رسالة، تبدأها بـ “السلام عليكم”، أخبرتها بأنه لا داعي لهذا الأمر، يمكنها أن تكتب لي ما تشاء مباشرة، فتعجبت من طلبي وأخبرتني أنه لا يصح! لا يمكن أن تتحدث مباشرة بهذا الشكل حتى عن طريق الكتابة، هذا ليس بأسلوب لائق!


كذلك والد صديقتي العزيزة، يبدأ أي تعليق على فيس بوك بالسلام عليكم، ويُصر على الكتابة بلغة عربية سليمة، ثم يختم تعليقه بتحية أخرى. تحكي لي صديقتي عن ضيقه لعدم قدرة أبنائه على الكتابة بعربية سليمة مثله، ويتساءل هل ما يفعلونه بحق تواصل ونقاش؟


نعم يُمكن للقارىء الآن أن يتهمني بأنني أتبنى وجهة نظر الآباء، وكما طالبت باحترام طرق استخدامهم، يجب عليّ احترام طرق استخدامنا المختلفة، في الواقع لم أعترض، يحق لكل فرد عمل ما يريد، لكنني أصبحت أنفر من أسلوبنا عديم التهذيب والسريع والحاد والغاضب طوال الوقت مما يسبب لي إزعاجًا نفسيًا وشعور بأن هُناك دائمًا ضغوط في التواصل الاجتماعي.


ختامًا لهذا الجزء، لا أشعر بأي شكل من الأشكال أن وسائل التواصل الاجتماعي ساعدت في تطورنا بالطريقة التي نتخيلها، حتى على صعيد الشخصية والتفهم لطبيعة أساليب النقاش والاطلاع على أفكار مختلفة وتقبلها، فقديمًا كانت هذه الأفكار موجودة في عهد لم يمتلك المفكرين فيه سوى ألسنتهم للتعبير عما يدور في رأسهم، وأبرز الفلاسفة، والعباقرة، والمخترعين نشأوا في هذه العهود، التي استطاع الأفراد فيها التواصل وتدوين أفكارهم العظيمة وإيصالها للملايين في العصور التالية بدون أجهزة حديثة، وهو ما يُعد إنجازًا وعبقرية بحق!

المظهرية المميتة

أرغب في التشديد على أن ما أذكره من مساوئ استخدام وسائل التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي الحديثة موجود في طبيعة البشر على مر التاريخ، ولكن الجديد هو ما يحدث حاليًا بدعوى التطور والتقدم من استخدام مفرط يثير القلق حول مستقبلها في التواصل والتعامل سويًا كبشر.

أهم أبرز هذه المساوئ هي فكرة المظهر التي تسيطر علينا بشكل غريب حقًا، خذ خطوة للوراء وانظر للصورة الكاملة، ما فائدة وجود مواقع مخصصة لمشاركة الصور والفيديوهات بجانب المواقع المعتادة للتعبير عن الرأي والأفكار؟

أصبح هناك عبء مستمر على كل مستخدم في إبداء رأيه في كل صغيرة وكبيرة من شئون البلاد والعباد، ناهيك عن الصور التي تشاركها لأماكن تنزهك والأكلات التي تتناولها وأهم الأحداث الشخصية والإنجازات وكل ما يتعلق بحياتك عمومًا أصبح متاح عبر الإنترنت للمشاركة.

السؤال الآن، لماذا؟

أصبحت أتساءل مؤخرًا عند البدء في كتابة أي “تغريدة” أو “حالة شخصية” قبل غلق حساب فيس بوك، عن جدوى هذه الكلمات؟ لماذا أكتبها؟ لمن أكتبها؟ لماذا أشارك صوري؟


لماذا أرغب في معرفة رأي الآخرين في كلماتي وأفكاري حتى في أتفه الأمور بهذا الشكل؟


حالة الهلع التي تصيبنا عندما لا نجد تعليقًا واحدًا على ما كتبنا، والقلق بشأن عدد “علامات الإعجاب والحُب” على صورتنا الأخيرة، وهم الرد على كل تعليق بما يناسب شخصية المُعلق.


لماذا كل هذا القلق؟ ما هذه الأفكار التي تشغل عقولنا بحق؟ أصبحت سعادتنا مرتبطة بمدى رضاء وإعجاب وحُب الناس لكلماتنا وصورنا، فلا تكتمل “الخروجة” بدون صورة على انستجرام مع عدد لا نهائي من الوسوم “الهاشتاج” للتعبير عن قوة علاقة الأصدقاء

#friends #BFF #a7la_5roga #love

نسارع بإلقاء مشاعرنا على الإنترنت للمشاركة بعدة أحرف وينتهي الأمر عند هذا الحد، حتى أننا أصبحنا نقلق ونفكر في رأي الآخرين في شكل ملابسنا في الصور، وهل تكررت أم لا في صورة سابقة؟


كل هذا أمر بسيط، إذا قارنته بقصص الحُب الخيالية التي تدور على صفحات التواصل الاجتماعي بين أبرز “المؤثرين” والتي يتابعها الجماهير بشغف ويتمنون الحصول عليها، وبالفعل تحول طموح أغلب الشباب والمراهقين بل والأطفال حاليًا لمهنة حديثة تسمى بـ “المؤثر” أو “Influencer” وهو باختصار شخص كل أهميته التعليق على كل شيء، وصناعة فيديوهات أغلبها كذب وإدعاء لإضحاك الجماهير الغفيرة.


الخلطة السحرية لتصبح مؤثرًا: قليل من الحكم الأجنبية المُترجمة + عدد من الآيات القرآنية لإبراز مدى حرصك على إرضاء الله في وسط زحمة الحياة + عدد لا نهائي من الصور الرائعة في رحلات مختلفة + فيديوهات ساخرة تصبح أفضل عند إدخال عنصر الأهل أو أحد الخدم في المنزل! + رأي مخالف لطبيعة وتقاليد المجتمع حتى وإن كنت على غير اقتناع بهذا الرأي + ولا تنس أهم شيء، أهــم شيء، فتح خاصية المتابعة أو الـ follow.


مُبارك عليك الأمر، أصبحت من المشاهير وفي ظرف أشهر عدة ستنهال عليك عروض الإعلانات والمال والهدايا من طرف الشركات المُعلنة.


وبهذه الوظيفة الجديدة اكتملت عناصر هراء التواصل الاجتماعي في هذا المجتمع القائم على الدعاية والإعلان بشكل كامل، فكل هذه المواقع مدعومة ويتم تحديث خصائصها لمعرفة تفضيلات المستخدمين لبث الإعلانات المناسبة لهم للشراء، وهذه الإعلانات بدورها هي الأكذوبة الأكبر في عالمنا حيث لا تظهر سوى الإيجابيات والحياة الوردية عند استخدامك للقلم السحري، أو شرائك للهاتف الجبار، أو حتى مضغ العلكة الخرافية.

اختصارًا، أصبح عالم التواصل الاجتماعي مصدر المظهرية المميتة، التي لا يُمكن أن يتحملها شخص، وبالفعل هُناك عدد من حالات الانتحار بسبب تعُرض بعض من مستخدمي هذه الوسائل للسخرية من طرف أصدقائهم وزملائهم أو إصابتهم ما يُسمى بـ اكتئاب فيس بوك.

بدلًا من السعي وراء الحديث مع الأصدقاء الخياليين طوال الوقت، أعتقد أنه من الأفضل التواصل وجهًا لوجه إن استطعنا.

حقًا أفتقد الوقت الذي كنا نجلس فيه سويًا عائلة وأصدقاء لنتشارك المرح مع عدد كبير من الألعاب التي تنمي ذكائنا بحق وتمنحنا ذكريات سعيدة لم نكن بحاجة لتدوينها على صفحات التواصل أو التقاط صُور لها لإظهار مدى سعادتنا.
افتقد الثراء الذي كان يُشبع روحي بالنقاشات الحية المُباشرة وحتى الخلافات بيننا وبين بعض ومحاولة حلها وإرضاء كل طرف بشرح وجهة نظره بطريقة مهذبة ولبقة.
وأفتقد الانتباه الكامل لحديث أمي وأصدقائي، دون قلقي المستمر بعدد التنبيهات التي تأتي على الهاتف، وضرورة الرد عليها والحديث مع عدة أشخاص في نفس الوقت.


لهذه الأسباب وأكثر أؤمن أننا لسنا في حالة تطور، بل تأخر كبير، وأغلقت أغلب حساباتي الخاصة بالتواصل، لأتمكن من استعادة بشريتي وتواصلي الاجتماعي بحق مع من حولي، من أسرتي وأصدقائي، وحتى الغرباء الذين أصادفهم في الشارع، ولا يعني الأمر أنني أستطعت الاستغناء عنها بشكل كامل، ولا أنفي مميزاتها في أوقات كثيرة، لكنها ستصبح فقط عاملًا مساعدًا بالنسبة إلي، أو مجرد وسيلة احتياطية، لا المصدر الأساسي للتواصل.


قد يفيدك الاطلاع على:

ظاهرة إدمان متابعة المشاهير على الفيسبوك 

آية عاشور

أؤمن أن التعلم هو رحلتنا الحياتية، نقضيها في فهم كيف يسير العالم من حولنا وكيف نساهم فيه، نكتشف ذاتنا باكتشاف معالمه. أحب الرياضيات والرياضة وعالم الأنمي، وأكتب باستمرار عن تجاربي التعليمية. “إن الأمل جهد عمل والجهد لا يضيع” .. أبطال الديجتال 😉
زر الذهاب إلى الأعلى