تعليم النحو بين روح الشيخ ودرجات المدرسة -الجزء الخامس-
إنَّ الشيخَ إذا شَرَع في تعليم النحو قَدَّم علمًا له أصولٌ وفروعٌ، كما يُقَدِّم الفقهَ والعقيدةَ والحديثَ وكلَّ علوم الأمة، فهو يبدأ من الفرع الذي يحمِلُ الثمرة الناضجة، فيُجَلِّيه، ويُدْنِيه، ثم يتناول غيره، وهكذا حتى يُصيبَ المريدُ قدْرًا صالحًا من الفروع، ثم يربِطُ له الشيخُ بين أصولِ هذه الفروع التي أدَّتْ إليها، فليس النحو محضَ قواعدَ متفرقةٍ في أنحاء الكتب كيفما اتفق.
بخلاف مُدَرِّسِ المدرسة فإنه لا يُدَرِّس العلمَ أصلا، لكنه يدرِّس قشورَه وبعض فروعه، وكيفيةَ اجتياز الامتحان، والمدرِّس نفسُه في أكثر الأحيان يكون في غَيْبة عن الفلسفة الجامعة التي نَظَمَتْ هذه الفروع على هذه الهيئة، وفاقدُ الشيء لا يعطيه!
مِثَال مَشرُوح:
ومثال ذلك: أن الشيخ إذا شرح في أول دروسه الرَّفْعَ وعلاماتِه، استغرَقَ دقائق قبل الكلام على الرفع الاصطلاحي؛ لِيُبَيِّنَ للطلاب لماذا سُمِّيَ الرفعُ رفعًا، وهو ينقُل ذلك بسنده عن أشياخه إلى أكابر النحاة الذين وضعوا المصطلح ابتداءً، شارحًا الجملة العربية في أبسط صورها، مثل: يخرج زيدٌ، وزيدٌ منطلقٌ، لافِتًا أبناءَه إلى أن الكلمة في الجملة تحتل رُتْبَةً من رُتْبتين لا ثالث لهما، العُمْدِيَّة والفَضْلِيَّة، ومعنى هذا أن الكلمة إما أنها عمودٌ رئيسٌ ضروريٌّ في الجملة إذا فُقِدَ ماتَتْ الجملة، ولم تَعُدْ جملة، وهذا سماه النحاة العُمْدَة، كعُمْدَةِ البَلَد، وعمود البيت، عمود الخَيمة وهكذا، فلا يقوم البناء بلا عمود، ولكن يقوم البناء ويُسكن وبعضُ الكشافات ناقصةٌ، وبعض المكيفات معطلةٌ، وبعض النوافذ مسدودةٌ، ومثال هذه الزيادات كالكشَّافات والمكيِّفَات والنوافذ عند النحاة تسمى الفَضْلَة.
فالفضلة زيادة في الجملة تفيد قدْرًا من المعاني المهمة، لكن لو فُقِدَتْ لَظَلَّتِ الجملة جملةً، لها معناها الأصلي، فقولك “يخرج زيد” قد تم، ولو نقصت من الجملة إحدى الكلمتين لما ظَلَّتِ الجملة جملة مفيدة، وهذا دليل على أن “يخرج” وهو الفعل عُمْدَة، و”زيد” وهو الفاعل عُمْدَة أيضًا، أما لو قُلْنَا: “يخرج زيدٌ سعيدًا” فالزيادة هنا مفيدة، ولو حُذِفَتْ لَظَلَّتِ الجملة تعني معنًى يحسُنُ السُّكوتُ عليه، وهذا يدلُّنا على أن “سعيدًا” فَضْلَة، وهي حال.
فإذا فهم المريدُ ذلك قال له الشيخ: إن العُمَدَ عندنا أربعةٌ فقط، الفعل والفاعل، والمبتدأ والخبر، وكل ما سوى ذلك فَضْلة، ولذلك –يا بني- حَكَمْنَا لها بالرفع، فأنت ترفع الشخص المهم في المنزلة؛ لأن الرِّفْعَة والقَدْرَ الرَّفِيعَ مناسبٌ له، ويشير الشيخ بيده رافعًا الكتاب إلى الأعلى، فهو رفع تراه العين، وقد علمت لماذا رفعناها دون غيرها، أما الفضلات فمكانها النصب أو الجر أو الخفض، وهي منزلة دنيئة مُنْحَطَّة قياسًا بالمرفوعات، ويشير بيده إلى موضع منخفض.
والكلمات -يا ولدي- تتغير على الرُّتَب، فدوام الحال من المحال، ألم يكن الشيخ طفلا ثم كبِر ثم شاخ، وكان الطبيب ممارسًا عَامًّا ثم صار استشاريًّا، وكان أخوك طالبًا في المرحلة الابتدائية وهو الآن في الجامعة، هذه هي الرتبة، وهكذا رأيتَ كلمةَ “سعيد” فضلةً في جملة: “يخرج زيد سعيدًا” ويمكن أن ترى الكلمة نفسها تحتل مكان العمدة مرفوعةَ الرأس في قولك: “يخرج سعيدٌ” فلو علمتَ ذلك علمتَ أن النحو يدرُس الرُّتَب لا أواخرَ الكلمات، لأن النحو يدرس المعنى في الحقيقة، لا الشكل الخارجي الظاهري، فلا تنخدع.
وبهذا الشرح البسيط يفهم المريد معنى الرفع، ولماذا سمي رفعًا، تمهيدًا له لِيفهم ما حقيقة الدراسة النحوية، لا ليخدع بحفظ وتَكرار إعراب الفاعل في “جاء زيد” أنه مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة، ويظل يتساءل لماذا لا يكون الفاعل مخفوضًا وعلامة خفضه الضَّمة؟!
أما المدرسة التي ملأت الدنيا ضجيجًا عن الفهم لا الحفظ وتلك التُّرَّهَات التربوية الجاهِلَة، فإنها تُخَرِّجُ مَن يَحصُل على كل درجات الورقة الامتحانية في الثانوية العامة أو البكالوريا، ولا يَعلم لماذا رُفِعَ الفاعل، وما علاقة الفاعلية بالرفع؟ والأخطر من كل ذلك: ما الذي يدرسه النحو أصلا؟ المعنى أم الصورة، ولهذا نسمع من كثير من جهلة التربية والتعليم أن النحو دراسة للقوالب كالرياضيات، مع أن النحو علمُ الكشف عن منزلة الكلمة في الجملة ومنزلة الجملة في النص لا علم القوالب الشكلية لمعرفة العلاقات بين القيم المجهولة والمعلومة.
وبقي أن نعرف في الجزء القادم لماذا تُرفع إذن بعض الفضلات؟!